بقلم: د.خالد شوكات
لا تسقط الأنظمة السياسية غالبا بفعل “المعارضين”، إنَّما باتساع رقعة “الغاضبين”، فنظام الرئيس بن علي مثلا سقط عندما تحرّك الغاضبون، وهو ما شكّل مفاجأة حينها للنظام الذي لم يحسن التعامل معها وارتبك في مواجهتها حتى انتهى الامر برأس الدولة إلى مغادرة البلاد وترك منظومته إلى مصيرها، أما المعارضون فلم يزد عددهم كثيرا طيلة العشرين عاما التي حكم فيها الرجل بقبضة من حديد تونس كما لم يحكمها أحد من قبله، وبحسب تصنيف الجهاز المخابراتي فإن عدد الجدّيين من المعارضين لم يكونوا يتجاوزون الألفين، نصفهم خارج البلاد، إن لم ترهبهم العصا أغرت بعضهم الجزرة، وهم في كل الاحوال تحت الرقابة، بينما لم تلحظ كاميرات الأجهزة الأمنية تنامي حركة الغاضبين من مجهولي الهوية السياسية، خصوصا في المناطق الداخلية، ولربما نبّهت بعض مؤسسات النظام الى مؤشرات ذلك لكن هذه الاخيرة لم تأخذ التنبيهات بالجدية المطلوبة.
هذه السيرة في تركيز الأنظمة على حركة المعارضين والتغافل عن حركة الغاضبين، تكاد تكون متكررة عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، فما هدد نظام الزعيم بورقيبة بجدية مثلا، كانت غالبا أحداث وقف وراءها غاضبون لا معارضون بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، كان ذلك في احداث العمال في جانفي 1978، وفي احداث الخبز في جانفي 1984، فيما تمكن النظام البورقيبي بسهولة اكبر من التعامل مع تمرّد المعارضين، مهما كانت قوته وقربه من دائرة القرار ومركز الحكم.
هذا طبعا، دون الإنقاص من الدور الانتهازي/الاستثماري الذي قد تلعبه بعض مجموعات الحكم أو المعارضة في استغلال حركة الغاضبين، وهو ما يمكن ان نسجّله في جميع عمليات انتقال السلطة الكبرى، أي في إنهاء النظام الملكي، او الانقلاب على النظام البورقيبي، او تفكيك نظام بن علي، او حتى في ايقاف مسار الانتقال الديمقراطي، ففي جميع هذه النقاط المفصلية في التاريخ السياسي المعاصر لتونس، قامت اطراف في الحكم او المعارضة بقطف ثمار حركة الغاضبين.
عدم الانتباه إلى اتساع رقعة الغاضبين على مر السنوات العشر الاخيرة، الغاضبون من تغيير أولويات الحكم من العمومية الى النخبوية، والغاضبون من تهميش المسألة التنموية لحساب المسألة الحقوقية والسياسية، والغاضبون من خذلان شعارات الثورة الرئيسية في مكافحة البطالة والفساد، والغاضبون أخيرا من السياسات المتبعة التي قادت الى تراجع مرافق الخدمة العمومية وغلاء الأسعار وعدم الاستقرار وغلبة الرداءة على تسيير اجهزة الدولة، هؤلاء الغاضبين الذين لم تنتبه القوى المسؤولة عن قيادة الانتقال الديمقراطي للخطورة التي تشكلها حركتهم، هم الذين شكلوا القاعدة العريضة التي منحت إجراءات الرئيس سعيّد يوم 25 جويلية الشرعية الكافية لتنفيذ ما اسماه المعارضون بالانقلاب.
لقد انشغلت مؤسسات حكم الانتقال الديمقراطي طيلة عقد من الزمان برصد حركة المعارضين، التي اصبحت جزءا من النظام بفعل المفاهيم الجديدة الديمقراطية التي اعتمدت في الدستور، المؤقت المنظم للسلطات بين 2011 و2014، او دستور الجمهورية الثانية بين 2015 و2021، ومن هنا انغماس النخب السياسية والحزبية في صراعات عدمية صغيرة وتافهة في الغالب، لا صلة لها بقضايا غالبية التونسيين، الذين تراكمت في داخلهم مشاعر الغبن والغضب، متجاوزة جميع القناعات المثالية المرتبطة بالدستور والثورة والديمقراطية، حتى بلغت مداها بالتحول التدريجي نحو حركات التغيير الراديكالية، الشعبوية والفاشية، وهذا الانحراف العميق في الذوق العام من الاعتدال والوسطية إلى التطرّف والطوباوية.