اذا كان للثقافة عنوان فهو لا يمكن أن يكون غير الكتاب، فالكتاب هو الذي ينتج الثقافة لانه رمز المعرفة التي هي أساس كل بناء حضاري و شرط توطيده و تعزيزه و تواصله، و هو دليل نضج المجتمع و قدرته على التجدد والتقدم و مقاومة الانغلاق و التعصب و العنصرية.
ولا معنى للكتاب ان لم يكن له قارئ. فكلما ازداد عدد القرّاء تدعم حضور الكتاب وانتشر واشعّ واصبح اقدر على اداء دوره في انارة العقول و ترسيخ الكيان الجماعي و انشاء الضمير المجتمعي الذي لا قيام لحضارة دونه.
وراء هذه الحقائق الكونية، هناك حقيقتنا التونسية، حقيقة اقل ما يقال فيها انها محزنة، يمكن تلخيصها في هذه المعطيات الاحصائية الاربع: اولهما ان التونسي يقرأ اقلّ من كتاب واحد في السنة، و ان اكثر من 60% من التونسيين لم يقرأوا كتابا واحدا منذ ان انهوا دراستهم، وان 83% لم يشتروا كتابا واحدا خلال كامل السنة المنقضية، وان 75% من مواطنينا ليس لديهم كتب في المنزل. كل هذا يحصل في بلاد قارب عمر استقلالها السياسي السبعين سنة ولم ينفكّ زعماؤنا القدامى وحتى الحاليون يتبجحون بانهم عمموا التعليم وكرسوا له ثلث ميزانية الدولة لعقود طويلة.
عقلية مهرجانية
ولعل السؤال الذي يفرضه استعراض هذه المعطيات تلقائيا هو: أي معنى لمعرض الكتاب ان كنّا لا نقرأ الكتب؟
لنقلها دون تردد ولا مواربة: معرض تونس للكتاب لا يعدو ان يكون اكثر بقليل من سويّق (تصغير سوق) لبيع الكتب، وهو يتّبع النمط الذي دأبت عليه ادارة الثقافة في تنظيم كل او جلّ التظاهرات الثقافية منذ ما يزيد عن خمسة عقود دون امعان الفكر مسبقا في خصوصية الدورة المنتظمة و مميزاتها و تطوراتها المهمة حتى يتم تحقيق تغيير تحوّلي في كل مرّة يمكّن من الاسهام الفعلي في النهوض بالكتاب و القراءة.
انها عقلية المهرجان التي تسيطر على الحياة الثقافية لتجعل منها حلقات تنشيطية استثنائية للاستهلاك السريع، وعابرة لا تؤثر ايجابا في النهوض بالكتاب تاليفا و صناعة و ترويجا.
ولتأكيد ما قلنا يكفي ان نطرح السؤال: ما الفرق بين المعرض الحالي وبين الذي سبقه، بل بماذا اختلفت كل الدورات بعضها عن بعض؟ لا فرق ولا اختلاف.
ان دور معرض الكتاب لا يتوقف عند عرض الكتب وبيعها والقيام ببعض الأنشطة الجانبية مثل حصص التواقيع و الدعاية و توزيع الجوائز. كل ذلك مهم لكنه ضئيل مقارنة بما تقدمه معارض الكتب في بلدان اخرى ولسنا نعني بالضرورة كبريات المعارض مثل “البوخمسّي” الشهير لمدينة فرنكفورت الالمانية، او معرض لندن، او معرض باريس.
عناصر للمستقبل
هناك بلدان عديدة اخرى مثل البرتغال واليونان و غيرها من القريبة منا جغرافيا و حجما نجحت في جعل معارضها قبلة الزوار و الكتّاب و الناشرين و صناعيي و حرفيي الكتاب بتحويل دوراتها الى مواعيد متجددة لفتح مزيد الآفاق و السعي الى ذرى ارفع لفائدة الكتاب رغم تصاعد المحامل الالكترونية و سطوتها على الساحة التقليدية للكتاب.
وتعتمد هذه المعارض في تحقيق نجاحاتها على جملة من العناصر اهمها ثلاثة:
اولا، الاختصاص الذي لا ينفي الصبغة العامة للمعرض و انفتاحه على كل انواع الكتب، لكنه يختار لنفسه توجها غالبا يعطيه ملامح خصوصية تميزه و تقويه و تجعله قبلة الصناعيين والناشرين و الكتّاب على غرار معرض مدينة بولونيا الايطاليه الذي اتخذ من كتاب الشباب اختصاصا له ضمن به التفرّد و النجاج والقدرة على التطور المتواصل.
ثانيا، تعزيز الوظائف المستحدثة في مجال الكتاب وهي وظائف وسيطة لكنها اصبحت اساسية في النهوض بالكتاب و منها خصوصا وظيفة وكيل الكتاب او الوكيل الادبي الذي يتولى مهمة التعريف بالكتاب و ابراز محتواه ومكانته و مكانه و الاشهار له و سلك الطرق الضامنة لانتشاره و وصولة الى القراء محليا و خارجيا. ومن هذه الوظائف الجديدة كذلك وكيل معرض الكتاب وتتمثل في البحث المستمر عن مواقع التمركز و الانتشار داخل البلاد و خارجها للمعرض و ربط الصلة بالمكتبات الخاصة و العامة و التهيئة لجعله كل دورة تشعّ اكثر على البلاد اكثر من سابقتها. كما ان من الوظائف التي فرضها السياسة الارادية لتطوير معرض الكتاب، ومن وراءه ممارسة القراءة، وظيفة ممثلي جمعيات المطالعة التي اصبحت تلعب الدو ر الفاعل في توسيع دائرة القرّاء وزرع حب القراءة في الناشئة و تنمية مهارات القراءة و الدفاع عن قدرة المواطنين على الوصول الى الكتاب بأرفف الاثمان.
كل هذه الوظائف يقع اليوم تكوين الشبان فيها و التدريب عليها في مؤسسات عليا مختصة وعلى الميدان حيث العمل و التطبيق.
وخلاصة القول اننا لن ننهض بالكتاب ما لم نتخلص من عقلية التلفيق و “عندكش عندي” التي حكمت على عملنا الثقافي بالرداءة و التخلف، وما لم ندرك ان تنظيم معرض الكتاب هو بمثابة العرض لمدى تقدمنا الفكري واستيعابنا لمتطلبات الحاضر و توقنا الى الى الافضل سيما و ان كبار المفكرين والمنظرين في العالم اصبحوا يتحدثون عن ديبلوماسية الكتاب و يعتبرونها الاقوى و الانجع و ربما كذلك الأخطر و الأكثر تأثيرًا مستقبلا.