الشارع الرمز لتونس ما بعد 2011، الذي تقهقرت جاذبيته التجارية وجماليته في الاعوام العشرة الماضية عندما اصبح مسرحا لكل التحركات السياسية والاجتماعية والتظاهرات بأنواعها وخاصة عندما تم اغلاق بعض أجزائه على المارة بحجج أمنية (وزارة الداخلية، السفارة الفرنسية وكاتدرائية تونس) وتطويقها بالرجال والعتاد والاسلاك الشائكة والحواجز الواقية وعربا الشرطة الرابضة هنا وهناك، ولم يعد يستهوي المولعين بالتسوق الراقي من المارة والسياح بعدما كان لعقود يمثل أجمل مكان للفسحة والشراءات المختلفة كامل ايام السنة وتحج اليه امواج بشرية تأتيه من داخل الجمهورية ومن مختلف المناطق والأحياء، إما للتسوق (به اجمل الفترينات والديكورات العصرية والتصاميم المضيئة)، وإما للتفسح.
1500 متر هو طول شارع الحبيب بورقيبة اذا انطلقنا من قوس المدينة العربي والى محطة قطار تونس البحرية، اقدم بناياته تقريبا التي مازالت صامدة، هي كاتدرائية تونس او الكنيسة 1859، والمسرح البلدي 1902، سفارة فرنسا ومبنى الداخلية بالاضافة الى تمثال الزعيم بورقيبة الذي أعيد الى مكانه ليشرف على شارعه قبالة تمثال ابن خلدون من جهة باب بحر الذي شيده الراحل زهير التركي والذي اعار وجهه للتمثال حسب بعض الروايات لكن وجه الشبه موجود لامحالة، في سبعينات القرن الماضي..
أروقة الكوليزي التي باتت شبه مهجورة لكن قاعة السينما الرائعة بقيت صامدة، واما مقهى لاروتوندا فقد تحول الى مكان غير مكشوف ومعقل المترنحين.. نزل افريقيا العصري والشاهق الذي اعيد ترميمه بالكامل لم يحد من ينافسه سوى مبنى دار التجمع المنحل وحتى البناية فقدت بريقها، وبقيت النزل الفخم فريدا وحيدا لعقود من الزمن. وبأقل اهمية منه نزل الهناء، تونس الدولي سابقا، ومقهى باريس، وبقيت بعض الاسماء الشهيرة للمحلات التجارية القديمة والمطاعم تذكرنا بماضي الشارع الجميل الذي تعاقبت عليه ازمنة وحقبات تاريخية منذ الفترة الاستعمارية التي كان تواجد “العرب” أبناء البلد، فيه يمثل خرقا لقوانين المرور وحسن الجوار عندما كان يحمل اسم شارع البحرية (بالفرنسية: Avenue de la Marine)، ثم من عام 1900 حتى الاستقلال شارع جول فيري (بالفرنسية: Avenue ).Jules-Ferry)
ثم اتخذ اسم الزعيم الراحل اول رئيس للجمهورية الحبيب بورقيبة، وأخذ فترة هدنة بعد الاستقلال وتم تجديده شيئا فشيئا الى ان أصبح بالصورة الجميلة التي نراها الان..
اما الامر غير المقبول بالكامل فهو اللجوء الى نصب الخيام البلاستيكية العملاقة ومتعددة الاختصاصات، وترذيل الشارع باقامة سوق تجارية من المنتج الى المستهلك في حيز من الفضاء المخصص للمترجلين فرادى وجماعات ومن ذوي الاحتياجات الخصوصية نظرا لارضيته المتقونة والخالية من حفر ارصفة الانهج الاخرى. أليس هناك فضاءات اخرى تؤدي نفس الغرض التسويقي!! ألم يكن اجدى اقامة هذا النوع من الاسواق لخدمة المواطنين وحماية مقدرتهم الشرائية بقرب الاحياء الشعبية المفقرة، ام العكس! الحل واضح لكن هناك من له رأي مخالف والمراد هو الدعاية السياسية لا غير..
يتساءل أي زائر لبلدنا، اين جمالية المدن، مداخلها وشوارعها الرئيسية؟ اين الحدائق العمومية التي اصابها التصحر؟ وبقيت فقط الارصفة المهترئة تضيق وتضيق على مستعمليها والمباني القديمة الماثلة للسقوط وكل بناية تسقط تصبح مربض سيارات واذا ما تم بناؤها فانها تأخذ شكل جديد لا يتواءم مع المحيط الذي توجد فيه.. أهم الانهج المتاخمة لشارع لورقيبة غزتها البضاعة الموازية والمستعملة لا تراعي الذوق العام، اما المبنى الجديد الـ Biat الذي اخذ حيزا كبيرا من شارع بورقيبة والانهج المحاذية بني على انقاض عديد المحلات الجميلة ذات الرونق الاستعماري القديم، ومكانه الطبيعي في نظري هو شارع محمد الخامس مع بقية البنوك، ومثله هدم بناية البلماريوم العظيمة ليأخذ مكانها مركز تجاري شعبي لا يليق بالمكان الموجود به.
لا اعلم ماذا ينتظرنا، وماذا يستوجب علينا فعله لمنع التلاعب بمكتسبات دولة الاستقلال وسوء التصرف في الفضاءات العامة، بعد العجز التام لتحسين الموجود او المحافظه عليه. فمن المفروض بل من واجبنا ان نترك للجيل القادم عالما أفضل كثيرا ﻣﻦ العالم اﻟﺬي وﺟﺪﻧﺎ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻓﻴﻪ.
والمبتغى ان يرجع شارع الحبيب بورقيبة الى سابق عهده كشارع للفسحة والتسوق خاليا من المناظر الدخيلة عليه بعد ازالة الحواجز الفولاذية والبلاستيكية والاسلاك الشائكة من فضاءاته.. تكفي الحراسة الالكترونية، يؤدي مهمته لاعطاء صورة مشعة لتونس المتجددة دوما حب من حب وكره من كره.
الحبيب المستوري -روما