كتب محمد أحمد القابسي
مع نهاية الماراثون الدرامي، وبعد أن أسدل الستار على مجمل الأعمال الدرامية التي اقترحتها القنوات التونسية، عمومية وخاصة، على مشاهديها على امتداد شهر رمضان الكريم، أجمعت شرائحُ عريضةٌ من هؤلاء المشاهدين، ومن غالبية أهل القطاع والنقاد والمتابعين، على أن هذا الموسم الدرامي كان الأسوأ إطلاقاً في تاريخ الدراما الرمضانية التونسية.
عرضت القنوات التونسية أعمالاً درامية، من عناوينها “براءة” و”الفوندو 2″ و”حب ملوك” و”كان يا مكانش” و”حرقة 2″ (أو الضفة الأخرى) وغيرها، وكشفت هذه الأعمال إجمالاً أمراضاً متشعبة، أصبحت تعاني منها، ما يؤكد معضلة الأزمة التي استفحلت في مكونات هذه الدراما وعناصرها، ولعلها أزمة تماهت مع الأزمات المركبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً التي تردّت إليها البلاد، ومن مؤشّرات ذلك غياب الأفكار والرسائل والسرديات الكبرى، وصولاً إلى السقوط في الدراما الفضائحية والتجارية الرخيصة التي فرضها مستثمرون عبر فوضى الإعلانات الإشهارية عن المواد الاستهلاكية التي جاءت، في أغلب الأحيان، مبالغاً فيها، ما جعل المشاهد يتابع سيلاً من هذه الإعلانات، تفصل بينها مقاطع درامية متسرّعة فقيرة المواضيع ضعيفة المعالجة، فضلاً عن غياب السيناريو المقنع والجاد والكاتب المتمرس، وزاد الطين بلّة غياب الممثل المتمكّن أمام اكتساح “الإنستغراميين” و”الإنستغراميات” الهواة، مدفوعين من أهل قنوات الإسفاف وإفساد الذوق العام وهتك مقومات المجتمع التونسي وثوابته التي أصبحت عنواناً ثابتاً للمشهد التلفزيوني باسم حرية التعبير والضمير.
عرضت قناة الحوار التونسي الخاصة مسلسل “براءة” مثلاً، إخراج وقصة وسيناريو صاحبها سامي الفهري، واعتبر تكريساً لمؤامرة تامة الشروط، تدفع نحو تدمير المجتمع التونسي، والتراجع عن ثوابت هويته العربية الإسلامية ومكتسباته المدنية والحقوقية والتشكيك خاصة في حقوق المرأة التونسية ومحاولة التطبيع مع قضايا محسومة تاريخياً، بإثارته مواضيع مثيرة للجدل، مثل الزواج العرفي الذي حسمته قوانين دولة الاستقلال منذ 1958، حين أصدرت مجلة الأحوال الشخصية، فهل كانت بطلة المسلسل “ريم الرياحي” في حاجة إلى هذا الدور. والمؤسف أنها توّجت بأفضل ممثلة لهذا الموسم، والتي جسدت في المسلسل دور المرأة الخانعة القابلة زواج شريكها في البطولة، وزوجها الممثل “فتحي الهداوي”، عرفياً من المعينة المنزلية. هذه الممثلة المتوّجة سبق أن تألقت في مسلسلات ناجحة خلال سنوات ما قبل الثورة، على غرار “عشاق الدنيا” و”الأكابر” و”ناعورة الهواء” و”نجوم الليل” و”قمرة سيدي محروس” و”الخطاب على الباب”، وغيرها من أعمال ما زال التونسيون يشاهدونها، ويحنّون إليها. هل كانت هذه الممثلة بحاجة إلى هذا الدور الصادم والخارج عن كل سياقات الواقع التونسي بكل تكويناته وقضاياه الراهنة؟
أما المسلسل الثاني، والذي اعتبر الأقل سوءاً في مجمل ما عرض، “حرقة” (أو الضفة الأخرى)، وعرضته القناة العمومية الممولة من دافعي الضرائب، فقد كان موضوعه الهجرة السرية بين ضفتي المتوسط، وهو موضوع حارق لا محالة، تعاني منه الأقطار المغاربية، ويشكّل أحد أهم أسباب معاناة أسر تونسية ومآسيها، إذ لطالما ارتمى أبناؤها في عرض البحر بسبب تفاقم اليأس ونسبة البطالة وتغلغل آفة الفقر في النسيج الاجتماعي، ولكن أغلبهم لا يسعد بوصوله إلى الضفة الأخرى، أو تلك الجنة الموعودة التي يحلم بها جلّ الشباب المفقر في تونس. كما يشكل موضوع الهجرة السرّية أحد أهم ملفات الجدل السياسي الذي يصل إلى الخلاف والتوتر بين دول المغرب العربي وجنوب المتوسط، وخاصة إيطاليا وفرنسا. وعلى الرغم من دقّة هذا الموضوع وحساسيته، إلا أن بوصلة صانعي المسلسل ذهبت باتجاه خدمة سياسات دول الشمال في موضوع الهجرة غير النظامية، وقد كشفت هذا الانحياز مشاهد البطل “مهذب الرميلي” داخل المحكمة الإيطالية، فضلاً عن غياب مسؤولية الدولة والمجتمع والأسرة في هذا الملف، وقد مرّ عليها المسلسل مرور الكرام
العمل الثالث لهذا الموسم والذي لم يشذ عن سابقيه “فوندو 2” الذي استند إلى جزئه الأول المصنوع خصيصاً لعموم المراهقين، وبذلك قدّمت حلقات المسلسل مجازر من الدماء والعنف في إطار ثابت لأسرتين تونسية وجزائرية، تشتغلان بالتهريب عبر حدود بلديهما، وقد غاب السيناريو والفكرة المحورية والمعالجة الدرامية.
تأسيساً على ما سبق، وإجمالاً لما عرض على التونسيين خلال موسم رمضان المنقضي، حصدت الدراما التونسية 2022 اتهامات كيلت لها، لا أول لها وليس لها آخر، بسبب إغراق المشاهد بسردياتٍ صغرى، ذات طبيعة استهلاكية تجارية، استخفافاً بالذوق العام وبتقاليد رمضان الكريم، وتكالباً على الربح الاستشهاري السريع. والمؤسف أن المجتمع التونسي، وعلى غرار كل المجتمعات العربية الإسلامية، يُقبل بتأثر بالغ على متابعة هذه الدراما خلال شهر رمضان عبر الفضائيات المفتوحة، ومن بعدها وسائل “السوشيال ميديا”، ليصل الأمر إلى ثقافة عامة تترسّخ من موسم إلى آخر. وقد برهنت هذه الأعمال التي عرضت خلال هذا الموسم عن غربة أصحابها عن المجتمع التونسي، وعن ذاكرة خصبة وسرديات كبرى. لقد ابتعدوا عن مكونات الشخصية التونسية وخصوصيتها، ولعلهم تاهوا في كوكب آخر لا يختلف عما تاهت السياسة فيه.
وفي الحفر عن أسباب هذا السقوط المدوي لهذه الدراما، يمكن التوقف عن ابتعادها عن وحدة المكان والشخصيات التي لا تشبه التونسيين، والمواضيع التي لا تتواءم غالباً مع زمنهم الراهن، فضلاً عن الغياب الكبير للكاتب المتمكّن والسيناريست الجاد. لذلك جاءت منبتّة عن بيئتها الاجتماعية وخلفيتها الثقافية، فغاب أنموذج العائلة التونسية، بمقوّماتها المتسامحة والمحبة للحياة والمتعاطفة مع الآخر. وكان في الإمكان أن تنهل هذه الدراما من مجمل التحوّلات الحارقة والكبيرة التي شهدها المجتمع التونسي منذ ثورة الكرامة 2011، حيث أصبح هذا المجتمع يعيش تحولاتٍ سوريالية لبطل واحد وحاكم واحد ولاعب واحد، ومن زادوا عن ذلك خونة أو حشرات ومتآمرون على الدولة ومؤسساتها.
أخيراً، تاريخ تونس الحديث حافل بالسرديات الكبرى من أحداث وملاحم وشخصيات في إمكانها أن تكون مادّة ثرية لدراما تونسية ناجحة. ثمّة شخصيات إشكالية وجوانب عديدة غامضة ما زالت تكتنف تاريخها، ولكننا لم نشهد إلى يوم الناس هذا دراما تونسية قدّمت للأجيال الجديدة هذه الأحداث والشخصيات، فالحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف والطاهر الحداد وابن خلدون وأبو القاسم الشابي وفرحات حشاد وغيرهم كلها شخصيات محورية يمكن أن تكون سيرها وتجاربها مادة درامية ناجحة، إذ كثيراً ما يعتقد التونسيون أنهم يعرفون جيداً هذه الشخصيات المؤثرة في تاريخ بلدهم، ولكن الواقع يثبت، من يوم إلى آخر، أن الأمر ليس كذلك، فمتى تصبح هذه الشخصيات والسرديات الكبرى للتونسيين مادة درامية حرية بالمتابعة والاهتمام… وإلى متى تظل هذه الشخصيات وهذه السرديات الكبرى غائبة في الدراما التونسية؟