مسرح تونسي : قراءة في مسرحية “آخر فرصة …للأمل” لمنصف الصايم
عبد الحليم المسعودي
برولوغ
في عمق الركح ثمة دائما كائن منير ينوسٌ بضَوْءِهِ الواهن يسمّونه “الخادمة” أو “الشبح المصباح” (Ghost Lamp) كائن يحرس المكان بعد انتهاء العرض حين تنطفئ الأضواء ويغادر الجمهور وتغلق بوابات المسرح. ثمة دائما مصباح يظل منيرا ينشر ضوءه الباهت على مساحة الخشبة المقفرة … ربما ثمة أطياف ممثلين قد رحلوا يحنون إلى الخشبة فيعودون ليؤدوا أدوارهم في تلك المساحة المقفرة وقد تساعدهم “الخادمة” بضوئها الذّاوي الذى هديهم حتى لا يتعثروا في الذكرى و لكي لا يفنيهم الحنين للأحياء وحتى لا تقاد الآلام اللامرئية للجراحات اللامرئية والأصوات العمياء للخطوات الخرساء.
وجود “الخادمة – المصباح” هو رشوة الزّمن الضائع للمسرح والراحلون عنه لا يموتون فهم كالأحياء من الممثلين –على نُدْرتهِم – لا تسكنهم إلا رغبة اللعب فوق الخشبة. لأن اليقين المسرحي يقول: “الممثلون لا يموتون بل يتعبون، الممثلون حين ينهشهم التعب والحنين تظل أرواحهم ترفرف تسكن أرجاء المسارح المقفرة والمظلمة لكننا قلما ننتبه إليهم “.
بيوغرافيا الوردة القرميزية
لابد في البداية أن نذكر بأن المسرح لازال يحتفظ في جيناته بتلك الأصول الضاربة في ظلمات القدم حين كان المسرح شعائريا وسحريا و شامانيا قادرا على استحضار الأرواح و أطياف الموتى، و لذلك فحسب فإن مسرحية “آخر فرصة …للأمل” للمنصف الصايم يمكن لأن تكون برهانا على هذه الطاقات الخفية في المسرح، طاقات استحضار الآخر. من الآخر؟
الآخر الحاضر الغائب المتجلي في الفرجة الفريدة التي أنجزها منصف الصايم في غياب رجاء بن عمار. والحاضر الغائب أيضا هو صعوبة كتابة هذه البيوغرافيا الفريدة لتجربة مسرحية كانت رجاء بن عمار رفيقة درب المنصف الصايم عمودها الفقري، بل روحها ولحمها وعظامها.
ولأن المسألة متعلقة أيضا بمسيرة تجربة مسرحية بعينها، أي تجربة رجاء بن عمار ومنصف الصايم، لابد أن نشير إلى أنه بصعوبة بمكان الحديث عن هذه التجربة الخاصة لهذا الثنائي الفني في غياب الإلمام بهذه التجربة نفسها ومعرفة مساراتها بالنسبة للمتلقي، حيث أنه في في تلابيبه هذا العمل المسرحي تمحي حدود الذاتية والموضوعية وفي كون هذا العمل يعد طقس استحضار لبيوغرافيا كاملة ويفوق أو يفارق سقف تحيّة الوفاء للفنانة الراحلة رجاء بن عمار.
ودون ذلك كله فإن هذا العمل المسرحي “آخر فرصة …للأمل” هو آخر عمل يكثف في جوانحه أيضا كل الأسلوب الجمالي الذي سطره الثنائي بن عمار – الصايم طوال مسيرتهم المسرحية. والمقصود بالأسلوب الجمالي هنا هو تلك المعركة الطويلة التي خاضها الثنائي من ثمانينات القرن الماضي ضمن الأطروحات الجمالية المسرحية التي تزاحمت فيما بينها لتبني تاريخانية ما للفعل المسرحي التونسي في حداثته النادرة والمشار إليها باسم “المسرح التونسي الجديد” التي فتح الباب عريضا على إعادة تعريف الممارسة المسرحية في علاقتها بالحياة اليومية التونسية ومخيالها الجمعي واصطياد علامتها التعبيرية الكبرى دون الانقطاع عن الاجتهاد على جبهتين، جبهة المحلية التونسية وجبهة الكونية و الإنساونية الشاسعة.
ونقصد هنا توجه الثنائي بالتدريج المتصاعد لتبني مسرح تونسي جديد قائم على لغة الجسد الراقص حينا والمنتفض دائما، لغة الجسد المنحاز إلى التعبيرية الحركية عند استحالة القول اللغوي، لغة الجسد الملحمية أيضا حين تكون حركات الجسد قادرة على سرد الواقع في انشطاره وتشظيه وانفلاته وعدم اكتماله، لغة الجسد العنفواني في لحظات القول الهذياني الغامر حين يستهدف هذا الجسد نفسه في بهاءه وقدرته على الغواية والقفز فوق المحرمات.
ونقصد هنا أيضا هنا توجه الثنائي المبكر للاستفادة الذكية والحذرة من فتوحات لغة وجمالية “الطانز ثياتر” (Tanz Theater) كما اجترحته الفنانة الألمانية المتفردة بينا باوشPina Bausch في تجربتها التعبيرية المذهلة … أقول الاستفادة الذكية والحذرة لأن رجاء بن عمار ومنصف الصايم لم يستسهلا الأمر في هذا الانتساب لباوش عن طريق النسخ والاستنساخ بل بالذهاب إلى اعتماد هذه المرجعية كأدوات لاكتشاف الإمكانيات التعبيرية العريضة للجسد التونسي في هويته الخاصة وفي سياقه الاجتماعي مع عدم التفريط في الدرامي الذي يحمي العمل المسرحي من التجريد و الاعتباط و الشكلانية المتحذلقة.
مسرحية “آخر فرصة …للأمل” هي مسرحية من أجل كتابة بيوغرافيا التجربة المسرحية ذاتها التي أنجزها الثنائي والتي أرادها منصف الصايم منطلقة من عتبة أساسية هي مسرحية “أمل” التي أنجزها الثنائي في عام 1986 والتي كانت من أولى إنتاجات فرقتهم المسرحية الخاصة “مسرح –فو”، قبل الوصول إلى محطات إبداعية أخرى (“بستان جمالك ” (1987) و”ساكن في حي السيدة” (1989) و”مقهى بغداد ” (1990) و”بياع الهوى” (1995) و”فاوست” (1997) و”المنشار الحائر” (1999) ومسرحية “وراء السكة”(2001) ومسرحية “هوى وطني”(2002) و”القرد” (2009) ومسرحية “طبّة” (2015) ومسرحية “نافذة على ” (2017) .
لكن هذه البيوغرافيا ليست كتابة إستعادية كما حال واجبات السيرة الذاتية، كتابة البيوغرافيا الانتقائية التي تحتفل بالجوهر والدائم في المسار الإبداعي كله لتجربة مسرح-فو.
ونعتقد أن مسرحية “أمل” التي أنجزت كما ذكرنا في منتصف الثمانينات كانت المسرحية التي تكتنز المفردات الأساس لتجربة لمسرح -فو كله, وذلك لأنها كانت أولا المسرحية التي تمت فيها القطيعة الحقيقة لتجربة الممثلة رجاء بن عمار عن تجربة المسرح الدرامي مع فرقة المسرح الجديد والتي شاركت ضمنه كممثلة في مسرحية “التحقيق” (1977) وانخراطها في مرحلة جديدة هي مرحلة تأسيس مسرح -فو الجماعية إلى جانب توفيق الجبالي و رجاء فرحات وجانت ستيفانس في تجربة “تمثيل كلام”(1980) وهي المسرحية التي كانت منعطفا تعبيريا جديدا في تجربة المسرح التونسي من زاوية الانتباه إلى خصوصية اللغة و المقول وهي نفس التجربة التي شارك فيها المنصف الصايم .
و يبدو أن تجربة مسرحية “تمثيل كلام” على أهميتها التعبيرية و انخراطها في أسلوب تجريبي مبكر ما بعد درامي يعتمد المواقف الأدائية المنفصلة وطرائق السّرد الشفوي و”استعمال المادة اللغوية كمجموع رموز وإشارات، تركب و تفكك بدون اعتبار مدلولاتها العادية و اليومية” (1),قد عمق الحاجة لدى كل من رجاء بن عمار ومنصف الصايم إلى المضي قدما في البحث عن أسلوب أدائي وإبداعي جديد لا يفرط في قوّة الشّفوي و ثراءه و لا يهدر هذه الطاقة الأدائية المكتسبة لديهما كممثلين “فزيائيين” قد راكما تجربة تمثيلية لا يستهان بها قبل مسرحية “أمل”, سواء كان ذلك في أعمال سابقة كمسرحية “توت فوت” (1981) “عرق” (1983) أو مسرحية “برج الحمام” (1985).
في مسرحية “أمل” والتي تحولت إلى عمل – رحم (L’Œuvre matrice) اكتملت عند الثنائي لحظة الاكتشاف العريض لإمكانية الكتابة بالجسد سواء في بعده الأنوثي الإيروتيكي والفرجوي المحلي والمتمثل في أداء الرقص الشعبي التونسي كما عرفته فضاءات الأرباض في الحاضرة (باب سويقة بالعاصمة خاصة) لكل من رجاء بن عمار وأمال الهذيلي وتذكيرا بنموذج الأدائي الراقص للثنائي “الأسطوري” زينة و عزيزة, أو الذكوري ودلالته الفحولية مع المنصف الصايم في نموذج الملاكم الشعبي المنتمي بدوره إلى الفضاءات الشعبية و تحديدا عوالم الأرباض (ربض باب الجديد بالعاصمة خاصة) وما يحيط به من ميثولوجيات الفتوة والرجولة في الذاكرة الجمعية الشعبية.
كما أن هذه المسرحية بالذات، أي “أمل” وبشعرية فريدة أن تحيي وتؤبن لنا في ذات الوقت عالم فرجة شعبية منقرضة عاشت ذروتها الذهبية في خمسينات وستينات القرن الماضي وهي فرجة الكافيه شانطا بنماذجها الشعبية الآسرة وحكايتها الإنسانية العميقة وشغف شخوصها من فنانين وراقصات ومغنين ومطربات وفتوات و متصابين و بياعات هوى .
ولا غرابة أن مسرحية “أمل” شكلت طوال مسيرة أعمال تجربة فرقة مسرح – فو المفردة التعبيرية المتكررة التي تكتنز في ذاتها كل هذه الدلالات الثقافية والذهنية التي أشرنا إليها. لقد كانت “أمل” بمثابة اللايتموتيف (Leitmotiv) أي استعارة بمثابة الجملة الموسيقية المتكررة في كامل أعمال فرقة مسرح – فو سواء في “ساكن في حي السيدة” أو في “بياع الهوى” أو غيرها.
ولا غرابة أيضا أن المنصف الصايم أختار في هذا العمل “آخر فرصة …للأمل” عنوانا منفلتا يذكر ويمحو متلاعبا بالمفردة المفتاح “أمل” في كل الاتجاهات. والثابت أن استذكار واستحضار طيف رجاء بن عمار لا يتم إلا عن طريق الاستعارة من مسرحية “أمل”، كالمقهى (الكافيه شانطا) والراقصات العوالم وسردية الملاكم الشّعبي.
والثابت أيضا كيقين أن خيط القرابة بين هذه المسرحية “آخر فرصة …للأمل” وبين مسرحية “أمل” خيط متين لكنه غير مرئي بسبب كثافة الإيحاء الدلالي حول المسيرة كلها، وبسبب الحضور المهيب المجلل بشيء من القداسة حين يكون الأمر متعلقا بذكرى الفنانة الأيقونة الراحلة “الليدي رجاء”. وهنا بالأساس تكمن صعوبة كتابة هذه البيوغرافيا، بيوغرافيا مسيرة مسرح –فو بثقل حضور رجاء بن عمار نفسها فزياء طيفية.
وهنا لا مفر لمنصف الصايم إلا الالتجاء لتكنيك الوردة القرمزية، وردة القاهرة القرميزية (La rose pourpre du Caire) وأعني تلك التقنية التي جرّبها المخرج وودي ألن Woody Allen في شريطه الشهير ذاك, حيث يكون استحضار الغائب في لحظة بين الحقيقة والهذيان حلم الصحو و صحوة الحلم . عند وودي ألن تستدعي سيسيليا حبيبها فيخرج لها من شاشة السينما، وعند المنصف الصايم يستدعي خيال حارس الحانة الهذياني المخمور طيف تلك الراقصة التي تقتحم وحدته الليلة. وليس الحارس إلا المنصف الصايم ذاته وليس الراقصة إلا راقصة شبيهة في هيئتها برجاء بن عمار أو ربما هي ففي المسرح تحدث المعجزات.
(يتبع)