بقلم عبد الجليل المسعودي
ساعات بعد حفله على مسرح قرطاج مازال هذا السؤال يزعجني ولم أجد له جوابا.
السؤال:هل الخطأ تتحمله الدولة أم زياد غرسه نفسه؟ هل تتحمله الدولة التي لم تدرك أنها تمتلك في شخص هذا الفنان كنزا موسيقيا وطنيا لا يُقدّر بثمن وتتركه يضيع بين عروض المناسبات الرديئه والمُهينة وبين غناء التمعّش في حفلات الزواج، أم يتحمله زياد غرس نفسه الذي لم يَعِ دوره التاريخي واستسلم بسهولة لطبعه “العرابني”؟ وهل هو طبعه أم ثقافة الرّبح المادي؟
لنتّفق أولا: زياد غرسة موهبة ربّانية لم أعرف شخصيا مثل قدرته على أداء التراث التونسي الكلاسيكي والتقليدي عزفا وغناءً. وهو مخزون واسع النطاق للتراث التونسي-الأندلسي المهدد اليوم بالاندثار والتلاشي. وهو ايضا مغنّ جمع كل مواصفات الأداء الجيد من قوّة في الصوت وامتداد ونبرة.
في دول أخرى شرقية وعربية ، أمثال زياد غرسة يُعتبرونهم معالم ثقافية وطنية حيّة يقع رعايتهم باستمرار وتبجيلهم وتُبذل الجهود حثيثة والامكانيات للاستفادة من وجودهم بكل الوسائل التقنية المتوفرة لتسجيل اسهاماتهم وتحويلها الى تراث تتداوله الأجيال وتعتمده لتأصيل الشخصية الوطنية.
الدولة التونسية(بمختلف مؤسساتها الإدارية والاعلامية من إذاعة وتلفزة) لم تقم بهذا الدور ولم تضع شروطا تمييزية تُفرّق بين هذا الفنان وذاك، بين المغنّي العادي وبين من هو في قيمة زياد غرسة يحمل في صوته وذاكرته جزءا من تراث البلاد الموسيقي. فكانت النتيجة أن اختلط الحابل بالنابل وغابت القيم وضاعت المراجع.
ولكن المسؤولية يتحملها زياد غرسة نفسه الذي يقبل بالهبوط من مستواه المرموق الى التهريج الموسيقى الشعبوي وينزلق بذلك الى ممارسات المغنين “العرابنيّة” الباحثين عن رضاء الجماهير الرخيص السّهل.
اتعبوني:بدأ زياد حفله على ركح قرطاج أمس الخميس بوصلة من المألوف التونسي في رواية نادرة استعرض خلالها عددا من الطبوع التونسية( المحيّرات، الحسين،ثم مقتطفات في المزموم وجزءً من فوندو ” ماني سيدك”) وبلغ بادائها درجة من الإتقان والسلطنة ما لا يقدر عليه إلاّ هو. بعد ذلك قدّم بعضا من انتاجاته الجديدة والتي لم تخرج، شعرا وتلحينا، عما قدمه في الماضي من قوالب نغميّة معادة ومعتادة.
ثم، وفجأة تحوّل شيخ المالوف الى مطرب جماهيري ادّى “كوبلات” من أكثر مغنيي تونس تَمشرُقا وهو الخالد علي الرياحي، قبل أن يخلع عنه نهائيا جبة شيخ المالوف ويلبس جبة مغني أعراس ويقدم مختاراتٍ من أغانيه ومن الاغاني التراثية، وكل واحدة منها أكثر إقاعية من الأخرى. لم يعد عندها السماع هو الهدف بل تجاوبُ الجمهور وإدراجه في عملية تفاعل وتناغم دون اعتبار لما كان يُقدّم، لذلك لم يبخل زياد بالرقص وبطلب “الزغروطة” بلا انقطاع، تماما كما لو كان في صالة أفراح زواج.
طبعا يمكن لزياد غرسة ان يختبأ وراء عنوان”فرحة” لتبرير التوجه “العرسوي” الذي أعطاه لعرضه ونجح به في شدّ جمهوره الوفير وإرضائه. ولكن هل كان يجب انتظار مسرح قرطاج لتقديم مثل هذه الحفلات التي أقلّ ما يقال فيها إنها عادية وفي متناول كل “عرابني”.
مؤسف وغريب ان يرضى فنّان في هذه القيمة بهذا الفن الاستهلاكي البسيط والمتشابه تشابه “أبراج البقلاوة”في اعراسنا.
ومؤسف أكثر وأغرب ان تترك الدولة موهبةً فذّة كزياد غرسة ولا توظّفها في تدوين وتعليم ونشر تراثنا الموسيقي التونسي المغاربي الشاهد على قدم وعمق وتنوّع حضارة هذه البلاد.