تقع مدينة كسرى على بعد 170 كلم عن العاصمة لكنها تظهر أبعد بكثير بسسب صعوبة الوصول إليها عبر المنعطفات والتضاريس الكثيرة ليتفاجأ المسافر بمدينة انتصبت فوق أعلى قمة جبليه في البلاد بارتفاع يصل 1174مترا وكأنها تتحدى الجاذبية، والزمن، وقسوة الطبيعة، وعدم اكتراث السلطة كلّه معا.
يا لها من فكرة لاختيار مثل هذا المكان لبناء مدينة واختيار العيش في مثل هذه الجغرافية! لكن بعد ان يزول تعبُ السفر وتتضح الرؤية يكتشف الزائر جمالا وسحرا قلّما يجده في مكان آخر.
كسرى تبدو وكأنها انتُزعت من الصّخر انتزاعا. هي خليط متناقضٌ بين جفاء الحجر الحاضر في كل شبرٍ وركنٍ، وبين حنانِ شجر الصنوبر الحلبي الذي يكسو المدينة وينحدر كذيل فستان أخضر ، وبين جفاف البيئة المحيطة وكرم الجبال المتفجّرة عيونا وشلالاتٍ.
قد يتوهّم الزائر وهو يتسلل بين ثنايا المدينة الجبلية الوعرة أن الطبيعة قد تكون قد طبعتْ سكان هذه المدينة بالشدّة والصّلابة. خطأٌ فادحٌ، لأن الكسراويين على درجة من الطّيبة وحبّ استقبال الزائر والاحتفاء بمقْدمه. لا شك أن ذلك عائد الى تأصّلهم ومعاشرتهم لطبيعةٍ كريمة وجميلة.
الكسراويون واعون بخصوصيتهم الثقافية وبجذورهم البربرية. ورغم غياب الدراسات العلمية التي تؤكّد ذلك بوضوح، فإن أكثر من عنصرِ يرجّح هذه الفرضية، من ذلك وجود المدينة في قلب موقع جغرافي حافلٍ بالأحداث التاريخية، والتي تشهد علي قيمتها الكبيرة الآثارُ المنتشرة في المدن المجاورة، في مكثر، وجامه، والكاف، والسرس وغيرها من كبرى المواقع التاريخية بالجهة. كما أن إنشاء المدينة في مثل هذا العلوّ الشامخ يساهم في الاقتناع ان الكسراويين الأصليين التجأوا الى مثل هذا الخيار حفاظا على اختلافاتهم العرقية والثقافية كما فعلت عديد الأقوام والقبائل البربرية زمن الحروب الرومانية او الفتوحات العربية الاسلامية. والناظر الى الكسراويين يلاحظ انهم مايزال يحافظون على سماتٍ وملامح مشتركة توشي بعزلة هذه المدينة قديما، والتي قد تكون بدأت في الانفتاح على محيطها متأخرا وربما ابّان الاستقلال.
كل هذة المعطيات الموضوعية و الذاتية دفعت بنخبة المدينة وشبابها الى البحث عن إبراز وتثمين انتمائهم البربري عبر تنظيم أول مهرجان مختص في الموسيقى الامازيغية بدأت دورته الأولى أمس بسهرة مع فرقة نضال اليحياوي لاقت نجاحا واقبالا جماهيريا هيّآت له الفقرات الفنية العديدة التي انطلقت منذ الصباح مع تنشيط في ساحات المدينة وعرض لمسرح الشارع ومعرض للصناعات التقليدية.
وتتواصل فعاليات المهرجان بسهرة أخرى مساء هذا السبت مع فرقة سيرتا نوفا Cirta nova.
غدا الأحد، يوم اختتام المهرجان، سيشهد تنظيم ندوة فكرية حول “السيرورة التاريخية للموسيقى البربرية بشمال إفريقيا” بمساهمة الاستاذين أسامة الناجح(ليبيا) وتيسير زيدي. كما سيتمّ تنظيم ورشة تطبيقية في “الموروث الايقاعي بشمال إفريقيا” يشرف عليها الأستاذ إبراهيم بهلول.
ويتواصل تنشيط المدينة وإبراز معالمها الطبيعية وخصوصياتها الثقافية عبر فقرات هذا المهرجان الذي بثّ روحا جديدة في المدينة وأدخل عليها مسحةً من الحيوية والتفاؤل.
والمنتظر الآن ان تلتفتَ السلطة الثقافية وكذلك السياحية الى هذه المبادرة وتدعم تطوّع أبناء كسرى وتجعل من هذه المدينة الجميلة مقصدَ التونسيين والأجانب.
ع. المسعودي