ونحن نحتفل بعيد الشجرة الذي سن منذ شهر أكتوبر سنة 1958 نتطرق إلى ظاهرة التصحر التي ما فتئت تتهدد بلادنا بصفة جدية للوقوف على أسبابها الحقيقية والمقاربة الملائمة لمقاومتها.
ومن الاسئلة الجديرة بالطرح: لماذا فشلنا في مقاومة هذه الظاهرة رغم مجهودات التشجير؟ الم يحن الوقت لتغيير المقاربة؟ الاسباب الحقيقية لظاهرة التصحر في البلاد التونسيةتشكل الرياح في البلاد التونسية عامل تعرية وتصحر قد يكون أكثر أهمية من المياه المتدفقة وذلك من خلال زحف الرمال على الطرقات والمزارع وحتى المنازل.
وتشير بعض الدراسات ( مثل دراسة منجي بورقو، 1994) أن ثلثي البلاد التونسية مهددان بالتعرية الريحية وخاصة في ولايات المهدية والقيروان وسيدي بوزيد وصفاقس وقابس.
في هذه المناطق يدمر الارمال ما بين 50 و 100 طنا من التربة/هكتار/سنة.
ويزداد الأمر خطورة إذا أخذنا بعين الاعتبار نمو السكان وازدياد حاجياتهم. لقد تضاعفت مساحة الأراضي الزراعية بالبلاد التونسية أربع مرات تماما مثل عدد السكان ما بين بداية القرن العشرين وسنة 1975 وقد أدى النمو السكاني إلى التوسع في الأراضي الزراعية وجاء هذا التوسع على حساب المناطق الغابية والسباسب والمراعي التي انخفضت نسبتها ب32% لصالح الزراعة خلال نفس الفترة.
وبالإضافة إلى ذلك كانت النتائج كارثية بسبب استبدال المحراث التقليدي بأدوات عصرية تخترق أعماق التربة وتحفر أخاديد عميقة فتساهم بالتالي في مزيد الانجراف وخاصة بمناطق الجنوب التونسي.
من ناحية أخرى سمحت الآلات العصرية باستغلال مناطق منحدرة على حساب المراعي والسباسب أو السهوب وهي مناطق هشة وحساسة للتآكل والانجراف كما أدى استقرار السكان خاصة بعد الاستقلال إلى انهيار العديد من القطعان الكبيرة والاستعاضة عنها بوحدات صغيرة ترعى كامل السنة تقريبا في المنطقة المجاورة مباشرة للمناطق المأهولة بالسكان ما تسبب في الرعي الجائر وتدهور الوسط الطبيعي.
وهكذا أدى تدهور النظم القديمة لإدارة المناطق الريفية إلى اختلال لا رجعة فيه أحيانا للتوازنات البيئية التي كانت ناتجة عن الاستخدامات القديمة لموارد الأرض والنبات.
ونتج عن ذلك انخرام التصرف في الموارد الطبيعية وتسارع تدهور الوسط الطبيعي وتجلى ذلك في انخفاض الإنتاجية البيولوجية للنظم الايكولوجية المتضررة وانخفاض مستوى عيش السكان.
ويبدو التصحر في البلاد التونسية كنتيجة لسوء استخدام الموارد الطبيعية وهي الأرض والمياه والغطاء النباتي كما يبدو كتفاعل غير منظم وغير عقلاني بين الإنسان والبيئة مما أدى إلى نتائج وخيمة إلى درجة أن مناطق كثيرة ازدادت فقرا وأفضل مثال على ذلك منطقة “الجفارة” بالجنوب الشرقي التونسي حيث نتج التصحر عن ضغط سكاني متزايد في بيئة هشة.
وأظهرت الدراسات في معهد المناطق القاحلة بمدنين أن ظاهرة التصحر ظاهرة محلية جغرافيا إذا بدأت في منطقة ما تميل إلى الانتشار بما يتناسب ومعدل تدهور الوسط الطبيعي ويحدث ذلك وفقا للباحث التونسي حسين الختالي (1990، ص:50) في أي وقت عندما يدمر الإنسان الغطاء النباتي في بيئة ايكولوجية هشة ذات مناخ موات لبدء عملية التعرية بفعل الرياح وتسريعها.
الحاجة إلى مقاربة جديدة: المقاربة المنظوميةالمقاربة المنظومية هي تقنية تسمح بزيادة كفاءة العمل لأنها تأخذ في الاعتبار كلا من عناصر المنظومة والعلاقات بينها وبالتالي فهي تمكننا من تحليل ظاهرة التصحر وإدارتها بطريقة ملائمة بالاعتماد على مفاهيم تلك المقاربة مع الملاحظة أن المنظومة هي مجموعة من العناصر في اتصال مع بعضها البعض ومتميزة بوجود نقاط حساسة يمكن التدخل في مستواها لإيقاف اشتغالها.
ويتنزل وجوب تطبيق المقاربة المنظومية لان المفاهيم المتعددة الأبعاد مثل مفهوم التصحر تنطوي على مجموعة من العناصر تبين بصفة واضحة أن المجال الجغرافي الذي تستغله المجتمعات هو بمثابة منظومة معقدة تشمل في ذات الوقت عناصر متعددة وعوامل تفسير كثيرة ومتشعبة العلاقات.
ويبرر اختيار المقاربة المنظومية لأن المنطق الخطي يفتت مختلف مكونات الواقع إلى عناصر بسيطة من أجل تحليل كل منها على حدة وتنظيمها في ترتيب منطقي وهو “براديغم” تبسيطي لا طالما ميز المعرفة العلمية الكلاسيكية.
تطبيق المقاربة المنظومية على ظاهرة التصحر في تونسبعد التنظير نمر إلى التطبيق ونقترح الطريقة التالية لفهم ظاهرة التصحر في تونس والتمكن من إدارتها بصفة ناجعة.
إن للتصحر في بلادنا أسبابا بشرية وأسبابا ومسارات طبيعية. وتتمثل الأسباب البشرية في:
الضغط على المحيط وسوء التصرف في موارده وأحيانا استنزافها،الانفجار الديموغرافي واستقرار السكان بعد الاستقلال وفتور ظاهرة الترحال، توسع الضيعات الفلاحية، نمو قطيع الحيوانات (تربية الماشية)، انتشار الرعي العشوائي، نمو حاجتنا للطاقة واستفحال جمع الحطب وتدهور الغطاء النباتي.
وتتمثل العوامل والمسارات الطبيعية في أن الأسباب المرتبطة بالأنشطة البشرية الآنفة الذكر أدت بمعاضدة فترات من الجفاف عرفتها بلادنا على مر الزمن إلى تعرية التربة وتزايد سيلان المياه وتسريع التعرية والتبخر مما أدى بدوره إلى استفحال القحولة ونقص خصوبة التربة وتضافرت العوامل البشرية مع العوامل والمسارات الطبيعية لتؤدي إلى استفحال ظاهرة التصحر.
وتبين هذه المقاربة أو الرؤية الجديدة أن التصحر ظاهرة متشعبة تبدو في شكل منظومة تشمل مجموعة من العناصر المتضامنة والمتشابكة والمتميزة بعلاقات شبه آلية وعلاقات متبادلة أو راجعة حيث تؤثر مختلف العناصر في بعضها البعض، فعلي سبيل المثال يؤدي الرعي العشوائي إلى تدهور الغطاء النباتي ويؤدي نقص خصوبة التربة إلى استفحال القحولة والعكس بالعكس.
وتشمل هذه المنظومة أيضا نقاطا حساسة يكفي التدخل على مستواها لإيقاف اشتغالها، ولكن يشترط أن يشمل ذلك التدخل كل تلك النقاط.
هكذا نفهم سبب فشلنا في مقاومة التصحر رغم مجهود التشجير الذي ما انفكت بلادنا تقوم به منذ السنوات الأولى للاستقلال بمناسبة عيد الشجرة.
ويتمثل سبب ذلك الفشل في أن مقاربتنا للمشكل كانت أحادية الجانب.
ومن هنا يتبين أن مكافحة التصحر تقتضي مزيدا من الإجراءات في آن واحد مثل تنظيم الرعي واجتناب الرعي العشوائي، حماية التربية بمقاومة الانجراف، الحفاظ على الغطاء النباتي، عقلنة الري لاجتناب ظاهرة تملح التربة…أو بعبارة أخرى يجب عقلنة التصرف في مواردنا واجتناب الضغط على المحيط أي أنه يجب تصحيح أو مراجعة علاقتنا مع الطبيعة.
وهكذا تكون إدارة خطر التصحر ممارسة حقيقية تأخذ في الاعتبار كل أبعاد هذه الآفة. وقد أثبت لنا الباحث التونسي حسين الختالي (1981-1983-1995) من خلال محاولات وتجارب قام بها على المستوى المحلي أنه بالإمكان مقاومة تدهور التربة سواء على المستوى العلاجي أو على المستوى الوقائي. على المستوى العلاجي تكون مقاومة التصحر ممكنة بواسطة تقنية “التغطية” (Mulching) المتمثلة في نشر بقايا النباتات على سطح التربة بعد تسطيح الكثبان الرملية.
أما على المستوى الوقائي فتكون المقاومة باستعمال أدوات حراثة متماشية مع طبيعة التربة الهشة والخفيفة بالجنوب التونسي قصد التخفيف من خسائر التربة عند هبوب الرياح.
وفي الختام نؤكد أنه خلافا للمقاربة الخطية التي جعلت من التصحر ظاهرة ناتجة عن عوامل طبيعية مثل الجفاف والرياح والتعرية المائية والتي تستند إلى حتمية ضمنية تروجها أحيانا بعض وسائل الإعلام وعامة الناس فان المقاربة المنظومية بنظرتها الشمولية تضيف البعد البشري والاجتماعي والسياسي في إدارة شؤون المجال الجغرافي لأن الإفراط في استخدام الأراضي الفلاحية والتوسع في الزراعات لتلبية حاجيات السكان المتزايدة والرعي العشوائي الناتج عن نمو قطاع تربية الماشية هي أعمال ناتجة عن قرارات في المجال الجغرافي اتخذها صناع القرار.
كما أن هذه المقاربة المنظومية تؤكد على مسؤولية الإنسان في نشوء ظاهرة التصحر وانتشارها وتفضي إلى خطاب نقدي حول التصحر كخطر طبيعي وهو خطاب يؤكد على العلاقات بين العوامل البشرية والعوامل الطبيعية المسؤولة عن الكارثة التي لا معنى لها إذا لم يكن الإنسان معنيا بها.