ما زلتُ آمل أن يكون البيان الذي صدر أمس عن اجتماع رئيس الجمهورية بمجلس الأمن القومي والذي خصص لمعالجة ظاهرة توافد اعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء الى تونس(كذا)، قلتُ مازلت آمل أن يكون ما جاء في هذا البيان هو مجرّد وهمٍ بصري، أو خطأ مطبعي، أو، وكما يقال في لغة إعلام اليوم، مجرّد خبر مزيّف un fake.
لا اصدّق، ولكن…
الكلمات عنيدة ولا بدّ من القبول بأنها صادرة عن أعلى سلطة في البلاد وبانها تعني بوضوح ما لا يترك مكانا للشكّ والتأويل. ما يبقى عالقا في الذهن بعد قراءة البيان هو انّ تونس تغزوها منذ مدّة جحافل المهاجرين من الأفارقة التّحت- صحراويين الذين جاءوا لبلادنا لتنفيذ مشروع دُفعت من أجله الأموال الطائلة “لتغيير منظومتها الديمغرافية”.
هنا يبرز الخطأ الأول في البيان، وهو خطأ فادح ومزدوج وخطير.
فهو أولا لا يحدد عدد هؤلاء المهاجرين ولا أصلهم، ولا يعرّف بمن هم الآمرون بتنفيذ هذه الجريمة المتمثلة في تغيير طبيعة التركيبة السكانية للبلاد التونسية.
ومن الخطأ الأول إلى الخطأ الثاني المتمثل في سقوط رئيس الجمهورية رمز البلاد في ما تعني من ثقافة التنوّع والتعدد والتفتّح والتسامح، ومن إرث التمازج والإختلاط في فخّ شعار “الاستبدال الأكبر” Le grand remplacement الذي يرفعه أعداء المهاجرين في أوروبا من عتاة اليمينين المتطرفين المنادين بطرد المهاجرين المغاربة الذين يهدد تكاثرهم العنصر الأبيض المسيحي على أرضه الأوروبية. وبين فخّ الاستبدال الأكبر وفخّ “المؤامرة الخفيّة” لا يوجد غير مساحة قصيرة لعلّ البيان قطعها سريعا، موفّرا بذلك السلاح لعنصُريّي فرنسا أمثال “إريك زمور” الذي لم يخف فرحته بهذه الهدية الذي نزلت عليه من سماء تونس فراح يستعملها كحجّة”وشهد شاهد من اهلها”.
الشخصية العربية-الاسلامية ليست محددة بلون بشرة المسلمين، وهذا خطأ آخر اقترفه البيان، لأن كثيرا من بين الأفارقة التحت-صحراويين من يدينون بالاسلام الذي لا يفرّق بين أبيض وأسود الاّ بالتقوى. ولو كان الإسلام يفرّق بين ألوان البشرة ما كان بلال الحبشي الذي بالكاد كان يتكلم العربية يصبح مؤذن الرسول وصاحبه.
تعددت الأخطاء في هذا البيان وتنوّعت واجتمعت لتجعل منه نقطة سوداء على أكثر من مستوى، سياسيا وديبلوماسيا وثقافيا، بل وحتّى أخلاقيا. الى حدّ أن المتأمل في ما يحمله من مضامين خطيرة يجد نفسه يتساءل هل أن لرئيس الجمهورية مستشارين يتحمّلون نُصحه لتجنيبه مثل هذه الأخطاء التي تسيء لصورته وصورة البلاد ومصالحها.
وعلى افتراض أن جحافل المهاجرين تتوافد فعلا على بلادنا، فهل كان من الضروري جعل هذه المسألة علنيّة بهذا الشكل وفي هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد دون المخاطرة بإثارة الغضب الشعبي بما يمكن ان يؤدي ذلك الغضب من مضايقات وأعمال وعنف إزاء هؤلاء الأفارقة؟
ألم يكن من الأجدر قبل اتخاذ مثل هذا الموقف الصارم تهيئة الرأي العام بإطلاعه على الحقائق، إن وُجدت، بما يجب من هدوء وتروّ حتى لا نعطي الحجة لغيرنا فيعاملوا مهاجرينا خارج ما تفرضه حقوق المعاملات الإنسانية؟
هل نسينا فجأة اننا أرض هجرة وان عشرات القوارب ترسوا كل يوم وليلة على الشواطيء الأوروبية محمّلة بأبنائنا المهاجرين الغير شرعيين؟
ثم ألسنا بمثل هذه المعالجة لظاهرة اجتماعية نثير مشاعر اقليّتنا السوداء الوطنية التي تعاني العنصرية والتمييز السلبي ونزيد من عزلتها بسبب ما سيأتي من خلط وسوء فهم؟
لا يا سيادة الرئيس. مثل هذه الأمور لا تعالج بمثل هذه الطريقة.