خطاب الرئيس سعيّد حول مسألة الهجرة الغير نظامية أشعل حريقا لم يتوقّف نطاقُه عن التوسّع وشدّته عن الإزدياد يوما بعد يوم.
فبعد ردود الفعل المستنكرة-المنتظرة-الصادرة عن البلدان التحت-صحراوية المُصْدرة لهؤلاء المهاجرين، انتقلت المسألة التي لا تعدو ان تكون في المنطلق غير مهمّة بوليسية تضطلع بها شرطة الحدود، إلى قضيّة رأي عام عالمي مطروحةٍ على طاولات أهمّ المؤسسات الإقليمية والدولية، وإلى تساؤلٍ متواترٍ في كبرى وسائل الإعلام بمختلف انواعها. تساؤلٌ لا يخلو من خُبثٍ واضح لتشكيك مُغرِضٍ في تاريخ بلادنا النّاصع، وانتمائها الإفريقي المتأصّل الفاعل، وحضارتها المتفتّحة المتسامحة، وانجازاتها الإنسانية التقدميّة، وصولا الى خيارها الثوري الديمقراطي.
رئيس الدولة ارتكب خطأً، ما في ذلك شكّ. بل اخطاءًا.
خطأٌ تقديري، أوّلا، حين ظنّ أن مسألة الهجرة الغير-نظامية يمكن تجزأتها وفصلها عن أسبابها ومسبباتها المعقّدة في واقع معولم ومتشابك، وطرحها بمثل السهولة التي طرحها بها. والسؤال:أين مستشارو الرئيس؟
وخطأٌ مبدئي، ثانيا، يتمثل في التعبير بلغة قاطعة عن مشكليّة إنسانية متشعّبة لا تخلو من بُعد مأساوي، في ظرف عالمي تكتسي فيه مسألة العنصريّة حساسيّةً خاصّة بحكم ما سُجّل ويُسجّل من خروقات واعتداءات وجرائم في حقّ الأقليات في بلدان تُصنّف ديمقراطية ومتقدّمة.
وخطأ استراتيجي سياسي، أخيرا، حين تحمّل رئيس الجمهورية بنفسه، كرمزٍ للبلاد التونسية، مسؤوليةَ طرح المسألة والبتّ فيها علنًا، وكان الأجدر والأفضل تفويض هذه المسؤولية لرئيسة حكومته أو لأحد وزرائه لإبقاء الباب مفتوحا للاستدراك وإصلاح الخطأ. لكنها نتيجة السلطة الفردية . والسؤال مرة اخرى:أين مستشارو الرئيس؟
امّا وقد تمّ ما حدث، فإنه من الواجب التذكير بهذه الأشياء الأساسية:
اوّلها ان الرئيس قيس سعيّد هو رئيس التونسيين الذين انتخبوه انتخابا حرّا مباشرا وانه على التونسيين، والتونسيين وحدهم، حقّ محاسبته، وليس على أي طرف آخر من الذين، شرقا وغربا، استغلوا الظرف ونصبوا محاكم التفتيش وراحوا يوجّهون الاتهامات التعسّفية القاتلة لرموز البلاد، ومن ورائهم، الى الشعب التونسي كلّه، والمساس بإرثه الثقافي وبمصالحه الحيوية.
وإنه دور النخب كلها، الفكرية والسياسية، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها وانتماءاتها ان تقف اليوم في وجه هذه الهجمة الشّرسة المتحاملة. إنها مسؤولية الإعلاميين والكتاب والأكادميين، فضلا عن السياسيين، توضيح وإثبات ان تونس التي أعطت إسمها للقارة الافريقية كانت وستبقى أبدا أرض الحريّة والتسامح، وبلد الالتقاء والتضامن، ودولة القانون والمجتمع الحيّ المتيقّظ، وذلك حتى وان اعترتها صعوبات كدّرت ظرفيا طباع شعبها وعكّرت مزاجه الى حين.
ثانيها، أنه حتى في دول القانون والمؤسسات المتطوّرة، لا يمكن الزّعم أن عمليّة الهجرة، وبخاصّة الهجرة الغير نظامية، أمر يمرّ دون تخوّفات أو مصاعب أو، احيانا، صدامات، وأن بلادنا التي كانت سبّاقة الى إلغاء العبوديّة، تصارع اليوم للتخلّص من بقايا مظاهر التخلف التي علقت بها زمن انحطاطها واستعمارها بعد ان سبقت، مرة أخرى، الى الحرية والديمقراطية.
ثالثها، أنه لا يضرّ رئيس الجمهورية قيس سعيّد في شئ الإقرار بارتكابه خطأً سياسيا واعتذاره علنا عن ذلك، خدمةً لتونس التى تبقى مصالحها الحيوية فوق كل شخص وكل اعتبار، ولقطع الطريق نهائيا أمام كل الضّامرين الشرّ لتونس وشعبها والعاملين على إلصاق صفة العنصري بالشعب التونسي في انظار العالم.
فلعلّ مثل هذا الإعتذار يطفىء الحريق ويكون منطلقا لفتح القفل وتجاوز وضع الانسداد الخطير الذي تعيشه بلادنا.