للمرة الثانية منذ قيام ثورة 2011 يصادق البرلمان الأوروبي على قرار ضدّ تونس.
القرار الأول كان قد صدر، بعد التصويت عليه باغلبية، في الدورة البرلمانية لشهر أكتوبر 2021، في حين ان القرار الثاني تمت المصادقة عليه الخميس 16 مارس الجاري، بأغلبية كبيرة لا تترك مجالا للشكّ في أن بلادنا فقدت جزءًا كبيرا من رصيد الإعجاب والتعاطف الذي كوّنته لها بفضل ثورتها وما هيأته لبدء دينامية تحوّلٍ ديمقراطي. وإذا ما اعتبرنا أن القرارين الأوروبرلمانيين الإثنين صدرا في مدّة زمنية لا تتجاوز 18 شهرا، فإن الأمر يصبح متعلّقا بالرئيس قيس سعيّد الذي يجد نفسه المستهدف الأول،ولربّما الوحيد، من طرف المؤسسة التشريعية الأوروبية التي غيّرت من لهجة الانتقاد التي ميّزت قرارها الأول في اكتوبر 2021، لترفعه الى مستوى التهجّم والإدانة.
لماذا قيس سعيّد؟ لانّه يجمع كل السّلط في يده ما يجعل منه المثال المضاد للحاكم الديمقراطي في نظر هؤلاء البرلمانيين الاوروبيين، ولأنه في غيّاب مرافقة اتّصالية ناجعة قادرة على التوضيح ورفع اللبس، تتخذ ممارسةُ السلطة طابعا غامضا يجعل انتقاد صاحبها سهلا، بل ومطلوبا في تقاليد المؤسسة التشريعية الأوروبية.
قرارات غير الزاميّة، ولكن…
قرارات البرلمان الأوروبي غير إلزامية قانونيا وليس لها تأثير مادي مباشر، ولعلّ ذلك ما دفع بالبعض من سياسيينا وإعلاميينا، بسبب حماسةٍ مفرطة أو عن قلّة إدراك بطبيعةِ ودورِ هذه المؤسسة الأوروبية، الى التقليل من أثر القرار الاخير ضد تونس، فيما أظهر البعض الآخر لامبالاةً لا تخلو من تحدّ.
وهذا طبعا ظنّ خاطيء في كلّ الحالات.
البرلمان الأوروبي يلعب دورا محوريا ضمن مؤسسات الإتحاد الاروبي ويُعتبر-ويعتبر نفسه- الوصي على القيم التي تأسس عليها الإتحاد الأوروبي منذ نشأته سنة1951 كمجمع للفحم والصُّلبCeca بين 6 دول، إلى أن أصبح اليوم أكبر كتلة اقتصادية في العالم، يضمّ 27 دولة، يمتلك وحدة نقدية وسياسة خارجية ونواة دفاع مشترك، ويعيش به 450 ساكنا على مساحة تتجاوز الأربعة ملايين كلم مربّع.
وتتمثّل هذه القيم المؤسِّسة للاتحاد الاوروبي في الكرامة البشرية، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان.
دور هام متزايد
ولا يساوم البرلمان في هذه القيم النّابعة من وعيه التاريخي بأنها تشكّل حجر الزاوية في نشأته و أساس تقدمّه الفكري والمادي والسياسي، ويعتبرها شرطا لا غنى عنه في علاقته مع الآخر. كما يحرس بدقّة وصرامة على احترامها. ومما يزيد من تعلّق البرلمانيين الاوروبيين، على إختلاف انتماءاتهم السياسية ما يعتبرونه “عجزا ديمقراطيا” في تسيير الإتحاد الاروبي بسبب هيمنة الهياكل التقنوقراطية على مؤسساته، لا سيما منها المفوّضية الأوروبية La Commission européenne صاحبة اليد العليا في المبادرة والتنفيذ.
من هذا المنطلق يؤدي البرلمان مهمّة المُحاور المعبّر عن رأي الشعوب الأوروبية،و النائب عنها، والمُذكِّر الدائم بقيمها الأساسية المشتركة.
والحقيقة أن البرلمان الأوروبي نجح في العشريتين الأخيرتين أن يُغيّر موازين القوى داخل الإتحاد الأوروبي ويكسب نفوذا متزايدا بعد ان أصبحت له قدرة قبول ورفض المترشحين لرئاسة وعضويّة المفوضية الأوروبية، الهيكل الفاعل داخل منظمة الإتحاد كما اسلفنا القول.
يُضاف الى ذلك أنه، أي البرلمان الأوروبي، يتمتع بنفوذ آخر أخطرَ وأهمَّ يتمثّل في تأثيره المعنوي القوي على الرأي العام الأوروبي خصوصا والعالمي عموما ، بحكم جمعه لكلّ أو جلّ العائلات السياسية الناشطة، أولا، وبحكم سهولة وصول النواب الى الصحافة التي يتجاوز عدد ممثليها في كل دورة برلمانية 400 صحافي من بلدان أوروبا والعالم، ثانيا، وبحكم قدرة نوّابه، أخيرا، على التشبيك le maillage وربط العلاقات مع النشطاء في كامل بلدان العالم، افرادا كانوا ام جمعيات، ودعم تحرّكاتهم ونضالاتهم ودعوتهم لحضور جلسات البرلمان العلنيّة للتعريف بهم. كما أنه بعث التشجيعات والحوافز المتعددة ومن أهمها “جائزة ساخاروف لحقوق الانسان” التي يسندها سنويا. ويولي المجلس الأوروبي، وهي السلطة الأعلى في الإتحاد، والتي تضمّ رؤساء الدول والحكومات أهمية متزايدة لقرارات البرلمان، سيما وأن الرئاسة الدورية للإتحاد تفرض على رئيس الدولة أو رئيس الحكومة حين يتولى رئاسة الأتحاد أن يقدم برنامَجه أمام النواب ويجدد التزاماته بخدمة مبادىء الإتحاد.
حذار من التهاون
ما عدى أن تطالب بإلغاء اتفاقية الشراكة، وهو أمرٌ يبدو صعبا و غير مسؤول، فإن تونس التي أثارت في 17 جويلية 1995 “حساسية” جيرانها حين سبقتهم وفازت بصفة أول شريك للإتحاد الأوروبي على جنوب المتوسط، تبقى، اليوم أكثر من أي وقت مضى، في حاجة الى هذا الكيان. وليست الحاجة ماديّة وحسب، أو لأن الإتحاد هو الشريك الأول لبلادنا على جميع الاصعدة ومن يقدّم الإعانة الاهمّ لها، من ذلك أن حجمها تجاوز 500 مليون أورو في سنة 2022، بل كذلك وخصوصا، لأن الإتحاد الأوروبي بما يمثّله من قيّم حضارية يبقى المثل الذي ينشده شعبنا التوّاق الى الحريّة والديمقراطية والتطوّر، وذلك رغم ما يمكن ان نجده اليوم في سياسة هذا البرلمان من أنانية واستعلاء وحيف ولجوء الى المعاملة بمكاييل مختلفة.
إن ما ابداه و يبديه البعض من اندفاع مفرط في الردّ على البرلمان الأوروبي اثر قراره ضد بلادنا تصرّف غير مناسب، فضلا عن أنه لا يجدي نفعا بل لعلّه يشجّع نوابه على ان يصعّدوا “ويزيدوا في الطنبور نغمة” . والحكمة في التعامل مع الأمر بهدوء وواقعية والبدء بتحديد أُطر ووسائل التحاور مع هذه المؤسسة التّشريعية الكبيرة. ولا شكّ أن مجلس نوّاب الشعب هو الأجدر بتحمّل مسؤولية إنشاء قنوات الاتصال والتواصل مع البرلمان الأوروبي، وبعث الهيئات والبعثات المختصّة المشتركة. الى جانب الدور الموكول لمجلس النواب، فإن المجتمع المدني مطالب بتحمّل قسطه من المسؤولية، وكذلك التشكيلات الحزبيّة التي ينتظر منها والتحرّك والتفسير والتنسيب. لأن المستهدف في الأخير هي تونس. وتونس للجميع.
ولكن كيف لنا تصور هذا الجهد الضروري والوضع السياسي على ما هو من انسداد وتعطّل؟
الأخطر في كل الحالات يبقى في نظرنا ما يقوم به البعض من تصرف عنتري يقللون من قيمة قرارات البرلمان الأوروبي ويدّعون القدرة على رفضها بمجرّد حركةٍ بظهر اليد.
RépondreTransférer |