بقلم عبد الجليل المسعودي
بعد ساعات قليلة يتقرر مصير الانتخابات الرئاسية والتشريعية في جمهورية تركيا، وهي بلا منازع الانتخابات الأهم في هذا البلد، ليس فقط للخمسة والثمانين مليون تركيّ، ولكن كذلك لشعوب المنطقة كلّها، والعالم عموما، لما أصبح لتركيا من دور هام جيوستراتيجيا وسياسيا واقتصاديا، ومن تأثير مباشر في الأحداث والتطورات الكبرى الراهنة.
ويشاء التاريخ ان تصادف هذه الانتخابات الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركيّة على يد مصطفى كمال “أتاتورك” الذي أطاح بالخلافة العثمانية 1923 وحوّل العاصمة الى انقرة بدلا من استنبول. لكن يبدو أن الذاكرة التركية لم تزل تحتفظ بصورة السلطان المتربّع على كرسي إمبراطورية مترامية الأطراف وممتدّة النفوذ، حتى إذا ظهر سنة2003 طيب رجب أردوغان الرئيس، المتخلّي وتولى حكم البلاد لعشرين سنة دون انقطاع غيّر خلالها واقع ووجه تركيا ومكّنها من استرداد مكانتها المركزية في المنطقة، رأى فيه مناصروه كما معاضوه ملامح “السلطان” بما يتضمّن التوصيف من طموح لا متناهٍ وقدرة على القرار والإنجاز، ولكن أيضا من انفراد بالرأي ومحسوبية وسلطوية.
من أجل ذلك فإن اهميّة هذه الانتخابات تتمحور حول شخصية “السلطان اردوغان” الذي يتطلّع الى خلافة نفسه لمواصلة سياستة القومية التي تجعل من مصلحة تركيا الهدف الرئيسي والوحيد ولو كان ذلك عبر مسارات ملتوية ونهج متناقض دائم التغيّر، لا يقدر عليه الاّ هو.
والحقيقة أن هناك “أردوغانان” اثنان. أردوغان أول الذي جاء للسلطة سنة 2003، حين كانت تركيا محكومة بنظام برلماني، معلنا عن هدفه الأساسي المتمثّل في الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، فعمل على تحقيق هذا الهدف بالحدّ من نفوذ الجيش، وتعزيز الحريات الأساسية، ودعم اللاّيكية. كما أنه أدخل إصلاحاتٍ اقتصادية عديدة وهامة مكنت من رفع الدخل الفردي الذي تضاعف اربع مرات في بحر عشرة سنوات.
الأمر سيتغير عند رفض الإتحاد الاروبي عضوية تركيا المسلمة، وسيظهر عندها أردوغان ثان يتّبع نهجا محافظا سلطويا يضع الدين في قلب سياسته ويحدّ من حرية الإعلام ومكاسب المرأة. كما أنه سيعلن عن تحوّل النظام السياسي من برلماني الى نظام رئاسي وحذف منصب الوزير الأول ليتولى كامل السلطات.
غير أن اهم إنجازات أردوغان تحققت على مستوى السياسة الخارجية حيث أعطى لتركيا عبر خيارات قد تبدو متناقضة مع واقع وانتماءات البلاد لكنها تتبع مسلكا وحيدا هو مصلحة تركيا المباشرة، والتي اظحت مُحاورا لا مفرّ منه لكلّ القوى الفاعلة في المنطقة وما بعدها، في وضع عالمي يعيش تحولات خطيرة ومتسارعة. فتركيا اليوم تبيع الطائرات بدون طيار لأوكرانيا، وتشتري من عدوّتها روسيا أنظمة دفاعات جويّة على رغم استياء حليفتها التقليدية أمريكيا والحلف الأطلسي والتي هي عضو بارز فيه، وهي تنافس فرنسا في اكثر من جهة وفي أكثر من مجال وتمارس أكبر الضغوطات على الإتحاد الأوروبي…
مثل هذه السياسة لم تترك أصدقاء كثيرين لأردوغان الذي يتمنّى اليوم كثير من شركاء تركيا أن يروه يخسر الانتخابات للفائدة منافسه الأبرز كليتشراد أوغلو الذي يرأس تحالفا حزبيّا يضمّ ستة احزاب سياسية، والمدعوم من الشباب خصوصا المتطلع الى مشهد سياسي جديد بعد عقدين من حكم أردوغان.
ولكن السؤال الأكبر يبقى: هل سيتغيّر واقع تركيا في حالة فوز كليتشراد وخروج اردوغان؟
الخوف ان يكون الجواب لا، لأن تركيا التي حكمها حزب العدالة والتنمية لمدة عشرين سنة لن تتغير سريعا، بل وقد يكون حكمها صعبا وربما مستحيلا قد يفضي الى عدم الاستقرار والفوضى، وهو ما لا يتمنّاه أحد بمن في ذلك أعداء أردوغان نظرا للثقل الذي تمثله البلاد. وعلى كل حال ومهما كانت نتائج الانتخابات فإن الثابت أن السياسة الخارجية التركية لن تتغير جوهريا.
بعد ساعات قليلة يتعرّف العالم عن حاكم تركيا الجديد. فإما مواصلة مع أردوغان تبدو الأقرب رغم تمنيّات عديد القوى في الداخل والخا ج، وإما مصير جديد يبدو جذّابا لكنه صعب في بلاد محافظة يعيش شعبها على شعور دافق من الاعتزاز بالفخر رغم مصاعب الوضع الاقتصادي والاجتماعي ومخلّفات زلزالٍ قتل خمسين ألف من الأتراك.
RépondreTransférer |