لم يخطىء الزعيم بورقيبة حين عرّف نفسه في شاهدة قبره المنستيري بأنه” أول رئيس للجمهورية التونسية وأنه محرر المرأة “.
بقلم عبد الجليل المسعودي
لقد كان يعلم بما وُهب من تبصّر وما أوتي من حنكة أن الجزأ الأول من هُويته، أي مسؤوليته كرئيس للبلاد، موكول لتقييم التاريخ الذي يحكم له وعليه، وإن كانت في الحقيقة احتمالية هذا الحكم لا تهمّه كثيرا ولا تعنيه لأنه نجح، في حياته، في وضع نفسه فوق حكم السنين، أي فوق التاريخ، وذلك بفضل ما جاء في الجزء الثاني من تعريفه لنفسه:”محرر المرأة”.
مِثل أي سجّل سياسي، فإن حصلية حكم بورقيبة لا تخلو من إيجابيات عديدة وسلبيات كبيرة لأنها، مثل أي عمل سياسي، تُحتّمه احيانا وقائع وتفرضه حقائق وتُمليه إكراهات، كما هي موكولة لاجتهادات وحسابات بعضها صائب وبعضها خاطيء. لكن خيار تحرير المرأة عبر إصدار مجلة الأحوال الشخصية في يوم 13 أوت 1956 أخرج بورقيبة من دائرة الظرفي الى فضاء المستدامة، من العرضي الى الدائم…ومن السياسي المتحوّل الى الحضاري الثابت.
*****
بورقيبة لا يتحدث عن حرية المرأة. بورقيبة يتحدث عن تحرير المرأة. هناك فرق. الحرية تصف واقعا. اما “التحرير” فيعني عمليّة متواصلة في الزمان ومن حيث تطورها النوعي باعتبارها تمسّ كل مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو مسار مستمر يحتاج إلى تجديد فكري دائم حتى يكون قادرا على الإنجاز والإضافة ولا يسقط في الاسفاف والرداءة فيحيد عن أهدافه الحقيقية.
والحقيقة أن بورقيبة بإصداره مجلة الأحوال الشخصية أشعل ثورة هادئة حدد من خلالها مشروعه المجتمعي الذي حوّل به مفهوم العمل السياسي تحويلا كلّيا جاعلا من تغيير ما بالنّفس الهدف الأساسي، ومعتمدا على المرأة، وسيلة وهدفا، للقطع مع عصور الانحطاط والتخلف، والانصهار في العصر، عصر التنوير والمعرفة. إنها ثورة كوبرنيكية.
لعله اليوم لم يبق شيء كثير من بورقيبة السياسي، لكن بورقيبة الزعيم الفكري الذي توجّه الى اصلاح ثقافة البلاد بإصلاح حال المرأة، باق ما بقيت تونس.
كل الذين حكموا تونس بعد بورقيبة لم يقدروا-الى حدّ اليوم- تجاوز مجلة 13 اوت 1956. بإستثناء الراحل قائد السبسي الذي أجبر على التراجع عن مقترح المساواة في الإرث تحت ضغط أنصار الخط التقليدي. أما الباقون فقد اكتفى البعض منهم بالتجميلات أو بالاحتفالات التي تفوح منها رائحة الاستمالة الانتخابية.
*****
كثيرون هم الذين، شرقا وغربا، قللوا وما زالو يقللون من الإنجاز البورقيبي باعتباره “هبة أمير” le fait du prince أُسقطت على المرأة إسقاطا. وهذا طبعا كلام مغرض وحجة كاذبة un argument spécieux مردودة على كل أصحاب النفوس المريضة الذين لن يستطيعوا الإتيان بمَثل وحيد لدولة مسلمة، فضلا على أن تكون عربية، كتبت على رخام قوانينها المساواة بين المرأة والرجل مثلما فعلت تونس منذ 67 سنة.
أما القول إن عملية تحرير المرأة أتت من زعيم رجل، فهو تأكيد على أن عملية التحرير شاملة ومشتركة، تهمّ الجنسين على حدّ السواء، وأن تحرير المرأة هو في النهاية تحرير للرجل.
وما من شك في ان التكفّل بمشروع إدامة تحرير المرأة هي اليوم مسؤولية المرأة نفسها، التي يجب ان تعمل بكل ما لديها من قناعة ومثابرة حتى لا يتسرب الشكّ الى هذا المبدإ المقدس، مبدإ المساواة بين المرأة والرجل، خصوصا في وضع متأزم كالذي تمرّ به بلادنا.
التاريخ ينبؤنا أن وقود الأزمات هي المرأة. فهي التي تدفع ثمن الصعوبات الاقتصادية، وهي التي يقع استغلالها في العمل وفي المنزل، وهي التي تصبح كبش فداء العنف الذكوري المتولد عن الأوضاع الصعبة وعن استفحال البطالة وتراجع قيم التعلّم والتثقّف وما يؤدي ذلك الى ممارسات تنتهك حقوقها وأولها حقها في السلامة البدنية والمعنوية. بل إنها هي الضحية الأولى لظاهرة تعميم القبول بالانقطاع المدرسي وتفشي ثقافة الرداءة والظلامية والتسطيح.
*****
كأني أرى الزعيم بابتسامته العريضة يقول لنساء تونس انه لم يفعل يوم 13 أوت غير فتح باب، وانه عليهن الدخول بأقدام ثابتة الى ساحة النضال من أجل تحقيق انتصارات أخرى اهمّ عناوينها الثقافة والمعرفة وحرية امتلاك الجسم والتشبث بالحرية والمساواة.
لأن تحرير المرأة مسيرة لا تتوقف ولا تكتمل ولا تنتهي أبدا.