بقلم عبد الجليل المسعودي
أعلنت أمس وزارة الثقافة انها ألغت دورة أيام قرطاج السينمائية ال34، معللة قرارها بأنه جاء “تضامنا مع الفلسطينين”.
لا اعتراض يمكن ان يكون اليوم لأي تونسي على مبدإ التضامن مع شعب شقيق يتعرض لاحدى أبشع عمليات التقليل والإبادة والتهجير.
ولكن…
لست شخصيا على استعداد للاقتناع ان إلغاء تظهارة ثقافية في حجم وعراقة مهرجان أيام قرطاج السينمائية يمكن ان يؤكّد تضامننا مع الشعب الفلسطيني، أو أن يفيده في مواجهته غطرسة حكام إسرائيل ووقوفه ضد آلتهم العسكرية الرهيبة.
بل اني أرى العكس تماما وأقول إن هذا الالغاء خطأٌ وإن تنظيمة كان أفضل من إلغائه. الخطأ يتعلق بالجوهر أوّلا، لأنه يوحي بأن مفهومنا للثقافة مفهوم مبتور، وأننا لا نرى في هذه الثقافة غير الترفيه واللهو.
الثقافة أوسع واشمل وأهم من كونها أداة للتسلية-وان كان ذلك مطلب كل إنسان، يُكمّل به انسانيته ويعطي به معنى لوجوده. الثقافة هي معركة دائمة لا تتوقف، ضد الجهل والأمية والتخّلف. وضد البؤس كذلك. معركة من أجل التحرر والانعتاق اللذين لا يتمّان الا بالمعرفة-معرفة الإنسان لنفسه أولا.
شكّل مهرجان أيام قرطاج السينمائية منذ تاسيسة سنة 1966منصّة متقدمة-وتقدّمية-لطرح مشكلية الإبداع الفني السينمائي كوسيلة لرفض الهيمنة الثقافية والتبعيّة الفكرية، ولمجابهة الإنبتات والزيف الحضاري، ولخلق وتقديم صوت وصورة أصيلين يعبّران عن هموم وأحلام الشعوب العربية والافريقية. ولقد أسهم هذا المهرجان في إبراز مبدعين كبار فرضوا بصمة السينما العربية والافريقية على السينما العالمية بخطاب جديد ورؤية مبتكرة، وخاصة بمواقف نقدية ثاقبة. فتكوّن بذلك عبر الدورات والسنوات جمهور سينمائي شاب ذو وعي وذوق، وتحوّل مهرجان أيام قرطاج السينمائية الى موعد ثقافي متميّز له وقعه وتأثيره في العمل والتوجه الثقافي في المنطقة وكامل القارة السمراء، يقصده السينمائيون الملتزمون من كل بلدان العالم للإطلاع على تجارب بعضهم البعض والتفكير حول اشكاليات هذا الفن الذي لا يتوقف عن التطوّر.
وحظيت القضية الفلسطينية ضمن اهتمامات وتوجهات السينمائيين مبدعين وكتابا ونقادا بمكانة خاصة تجسمت في أفلام انجزها مخرجون آمنوا بنفس القيم التي تأسست عليها أيام قرطاج ،فكانت افلامهم بمثابة احداث ثقافية طبعت الذاكرة وايقظت الضمائر وبثت الوعي. من يمكنه ان ينسى “المخدوعون” لتوفيق صالح أو “العصفور” ليوسف شاهين، وغيرهما كثير من الأفلام التي كانت تغذي الحوار وتثري المنابر الإعلامية المتنظمة في كل دورة للتعريف بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضيّة مركزية تتبناها النخب الأفريقية والعربية.
يقال إن السينما فن الحياة. فإذا كان ذلك كذلك فإن خطأ إلغاء دورة أيام قرطاج السينمائية يكون أكثر فداحة لأن قضية فلسطين رغم مأساتها هي قضية ارادة الحياة. بما تعني الحياة من فن وجمال وخيال. وذلك هو السينما.