من المصطلحات الغامضة التي تُستعمل جزافا في المجال الموسيقي كلمة “توزيع” التي نراها تستخدم دون حذر في ما يُنتَج حديثا من غناء عربي حتى تحوّل من لا يفقهون في هذا العلم إلى مختصين لا يُشق لهم غبار رغم تفاهة ما يفعلون بفضل البرمجيات الحديثة وما تقدمه من نماذج جاهزة.
ويبدو أن المسألة عامة وأن جل دول العالم تقاسي من الألم ذاته ولكن بنسب متفاوتة. فقد كتب الموسيقار الفرنسي Henry Dutilleux (1916-2013) الحاصل على “جائزة روما للتأليف الموسيقي” مقدما الجزء الثالث من كتاب Traité de l’arrangement للمؤلف الموسيقي Ivan Jullien الصادر عام 2008: “يأتي صدور هذا الكتاب القيّم في زمن تعاني فيه المنوعات وخصوصا الأغنية الفرنسية من أزمة حادة. فقد كثر الدجالون الجاهلون لأبسط قواعد الموسيقى والمنتحلون صفةَ التأليف والتلحين الواقفون في وجه المواهب الحقيقية القادرة على تأمين المواصلة. فكثير من اللعب الالكترونية التي في يد الهواة جعلتهم يظنون أنه يكفي أن يضغطوا على زر ليؤثثوا الفضاء السمعي”.
القضية إذن ليست في عدم الدراية ولكن في الإصرار على التمسك بها رغم سهولة إطلاع هؤلاء على ما يصدر في العالم عبر الوسائل الرقمية الحديثة التي تنشر الموسيقى من كل مكان وفي صيغها المختلفة.
إن التوزيع للأركسترا orchestration هو العِلم الموسيقي الذي يصف قواعد توزيع مختلف الألحان على الآلات التي تناسبها ضمن جوقة موسيقية وبالتالي فإن الملحن الذي يكتب للأوركسترا يوزع موسيقاه وحده على الآلات بكل إدراك وبحسب المردود السمعي الذي يرغب بلوغه. وكثيرا ما يحدث في الموسيقى العربية أن يكون الملحن غير عارف بهذه الفنيات ولا بكيفية استعمالها للتنفيذ فيلجأ إلى طرف آخر يُسمى موزِعا orchestrateur لينقل ما ألفه إلى الجوقة ويجعله قابلا للتنفيذ الجماعي. ويلجأ الموزع للأوركسترا إلى استنباط صيغ لحنية جديدة من صلب اللحن الأصلي وتكثيف الألحان التوافقية وإضافة عناصر جديدة قد لا يكون المؤلف الأصلي قد فكّر فيها.
ولكي نتبين كيف يتحول العمل الموسيقي الأحادي اللحن إلى مؤلَّفة فيها الصفات التي ذكرناها نأخذ مثلا قصيدة الطلاسم (لست أدري) للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي والتي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب عام 1944 في فيلم “رصاصة في القلب” بمصاحبة فرقة موسيقية شرقية. القصيدة ذاتها أعاد غناءها عبد الحليم حافظ عام 1962 في فيلم “الخطايا” ولكن بتوزيع “أندريا رايدر” الذي نقلها إلى الطبقة الصوتية للمطرب وهي أكثر انخفاضا من طبقة عبد الوهاب وأضاف إليها مقدمة وفواصلَ وخاتمة موسيقية تتماشى والصورة التي أرادها مخرج الفيلم. والملاحظ أن الموزّع -ربما بالاتفاق مع الملحن- غيّر ترتيب المقاطع فقدّم وأخّر لكن دون أن يَفقَد التأليف توازنه.لا يمكن لمن لم يدرس علم الآلات instrumentation أن يقوم بمثل ذلك لأن هذا العلم يختص بدراسة الآلات الموسيقية دراسة فنية وتقنية تشمل خصوصيتَها الصوتية أي الجرس timbre والمساحة النغمية tessiture والحجم الصوتي volume sonore وتقنياتِ عزفها -وهي الأهم- استنادا إلى أعمال كبار المؤلفين.
فالتوزيع إذن هو علم التنسيق بين كل هذه العناصر وتركيبها بحسب أجراسها وطبقاتها وتقنيات استعمالها.
وخلافا للموسيقى الكلاسيكية التي يكون فيها الملحن في الوقت ذاته موزعا فإن القائم بهذه المهمة في موسيقى الجاز والمنوعات لا يتولى التوزيع بل الإعداد arrangement الذي يتضمن تدخلا أوسع يتجاوز مجال الأجراس ليشمل إثراء التآلفات وإضافة خطوط لحنية. ومن جهة أخرى فإن الإعداد ويقابله في أمريكا adaptation هو أيضا إعادة تدوين مؤلفة موسيقية لتؤديها مجموعة من الآلات مع الالتزام بالألحان التي كتبها المؤلف الأصلي.
وتجدر الملاحظة أن مهمة الموزع بصفة منفصلة عن الملحن وُجدت بقلّة في الموسيقي الكلاسيكية وذلك حين يسخّر الملحن علمه كموزّع في خدمة ملحن آخر وخصوصا في “النقل” transcription للأوركسترا من تأليف كُتب في الأصل للبيانو أو لأية آلة أخرى. كما يُطلق بصفة خاصة على مقطوعة أساسها مؤلَفة مكتوبة أصلا لآلة منفردة أو لمجموعة آلية مختلفة أو في صيغة تقديم مغايرة للأصل. وقد يُستخدم اللفظ أيضا لعملية تغيير نظام التدوين ذاته مثلا من تدوين من العصور القديمة إلى التدوين الحديث.