يكاد يُجمع الدارسون لتاريخ الموسيقى العربية، والمصرية خاصة، أن العنصر الرئيسي الذي كان فاعلا في تحولها خلال القرن العشرين هو التوزيع الآلي.
فمقارنة بموسيقى التخت السائدة في أول القرن والتي اعتمدت على آلات قليلة العدد والتنوع فإن توسيع الفرقة الموسيقية واستخدام الأوركسترا بشتى تنويعاته العالمة منها والخفيفة أعطى للتأليف الموسيقي نقلة نوعية جعلته يقتحم بكل جرأة مسالك جديدة ومسارات لحنية ما كان ليدخُلَ فيها لولا التوزيعُ وتقنياتُه.
وقد صار التوزيع مرادفا للتطور من ذلك أن كل موسيقى تنحى هذا المنهج تُسمى مُتطورة سواء كانت تأليفا كاملا أو إضافة حتى أن أحدهم كتب معلّقا: “تخيّل أنك تستمع إلى هذه الموسيقى بدون توزيع فإنك لن تحس بها ولن تشعر بإيحاءاتها”.
في حفل حضره الزعيم جمال عبد الناصر بمناسبة عيد الثورة عام 1965 ألف محمد عبد الوهاب مقطوعة موسيقية بالمناسبة أسماها “هدية العيد” وقُدمت إلى جانب أناشيد أخرى للملحن مثل صُوت الجماهير والوطن الأكبر بأصواتِ نخبة من المغنين ونشيد على باب مصر من أداء المطربة أم كلثوم.
وقد تولى توزيعها للأوركسترا وقيادتها على المسرح أندريا رايدر الذي أطهر براعة فائقة في المزج بين موسيقى القرب الاسكتلندية في الصيغة العسكرية بأنغامها المخصوصة والموسيقى الشرقية بما تحمله من صِيَغَ وسمات دينية ودنيوية ذات طابع تقليدي.
وأندريا رايدر هو الاسم الذي اشتهر به Andreas Anagnoustos وهو ملحن وموزع موسيقَى يوناني الأصل ومِصري الجنسية ولد فى اليونان عام 1908 وقُتل في مدينة بوينوس آيروس بالأرجنتين عام 1971 في مشاجرة مع منحرفين.
وأندريا رايدر هو الاسم الذي اشتهر به Andreas Anagnoustos وهو ملحن وموزع موسيقَى يوناني الأصل ومِصري الجنسية ولد فى اليونان عام 1908 وقُتل في مدينة بوينوس آيروس بالأرجنتين عام 1971 في مشاجرة مع منحرفين.
والغريب أن كل الأغاني التي نقلها للأوركسترا يُنسب جانبُ التجديد فيها للملحّن ولا يَذكر أحدٌ دورَ الموزِّع الذي لا تقل قيمة عمله عن قيمة التأليف.
وكان رايدر وأمثاله المؤثرَ الخفيَّ والمَخفيَ قصدا وراء ما حققه الغناء المصري من تحوّل نوعي في صياغة المادة اللحنية وانفتاحٍ على ثقافة الآخر بمفهوم التقدم العام في تلك الحِقبة من التاريخ.
في الأفلام الغنائية، يتولى الموزِّع تأليف الموسيقى التصويرية أيضا انطلاقا من المواضيع اللحنية tema للأغاني الواردة في الفيلم مستخدما التفاعلات الهارمونية والصيغ اللحنية الناتجة عنها أو ما يسمى التنويعات variations وهي إحدى الأساليب التي لا يُتقنها سوى دارس تقنيات الكتابة les écritures.
وتُعتبر سيرِنادة sérénade “أنا لك على طول” في فيلم أيام وليالي (1955) من الأعمال الرائدة في تلك الفترة وقد لحنها محمد عبد الوهاب وغناها عبد الحليم حافظ في أسلوب مسترسل يشبه قالب المونولوغ الذي اشتهر به محمد القصبجي.
وهي أغنية متنوعة الألحان تلعب الآلات فيها دورا رئيسيا في التعبير عن مشاعر الحب الصافي وعن المناخ الحالم الذي يسودها وذلك في كتابة للأوركسترا صاغها رايدر بحبكة الفنان العارفِ لصنعته.
والسيرنادة هي مناجاة رومانسية يؤديها ليلا عاشقٌ تحت شباك حبيبته يعود أصلها إلى غناء التروبادور في القرون الوسطى واشتهرت بعد ذلك في أغاني الأوبرا الإيطالية aria مصحوبة بآلة الماندولين أو بالقيثارة مثل أوبرا “حلاق اشبيليا” لروسيني و”دون جيوفاني” لموتسارت.
وقد استعمل الموزع آلة القانون كجرس شبيه لمحاكاة الآلة الايطالية والإيحاء برومانسية مفقودة علاوة على أن مخرج الفيلم جعل المشهد يدور ليلا في زورق من تحت شباك عوامة المعشوقة وكأنه في مدينة البندقية بإيطاليا.
كانت السينما المصرية خلال مسيرتها غيرَ بعيدة عن دائرة تأثير السينما الأمريكية وحاولت أن تقتفي أثرها ولكن دون أن تتوصل إلى حبكة الصناعة والتنظيم الذي تميزت به.
ومن بين ما أحدثته الصناعة الهوليودية مهنة الموزّع الذي يتولى نقل الألحان إلى الأوركسترا والتي يضعها طرفٌ آخر، ليس لأن الملحن قليل التكوين تقنيا فقط ولكن لأن منطق الإنتاج يقسّم مهام المبدعين للحصول على أكثر ما يمكن من النجاعة وفي وقت مُحدد.
وقد وجد الملحنون المصريون في أندريا رايدر أحسن من يقوم بهذا الدور خاصة أنه ذو حساسية قريبة من الغرب وعارفا بأساليب موسيقاها الكلاسيكية والحديثة.
ويقول المؤرخ محمد قابيل إن أندريا رايدر رغم أنه “خواجة” فقد فهِم الذوقَ المصري وظهر ذلك في توزيعه الرقيق للألحان العربية التي غناها كبار المطربين.
والخواجة عند المصريين هو كل أجنبي غيرُ عربي وأيضا كل من اتبع أسلوب الإفرنج وتخلّق بعاداتهم.