بقلم الموسيقار د. محمد الڤَرفي
مسوّدة مخطوطة كان المؤلف الموسيقي المجري Béla Bartók (1881-1945) ينوي إلقاءها أمام المشاركين في مؤتمر القاهرة الأول للموسيقى عام 1932 لكنه عدل عن ذلك لأسباب مجهولة، وبقيت في وثائقه المحفوظة بمكتبة أكاديمية كيادو في العاصمة بوخارست.
وقد يكون فحواها المناقض للتوجه العام للمؤتمر هو الذي دفعه إلى اتخاذ هذا الموقف.
واشتهر الموسيقار المجري بكونه يجمع بين التأليف الموسيقي المُبتكر في القوالب العالمية مثل الكونشرتو والسيمفونية والأوبرا وبين العلوم الموسيقية وبالتحديد علم موسيقى الأعراق ethnomusicologie.
فقد تولى منذ العام 1905 التجوّل بين مدن وقرى المجر ورومانيا صحبة مواطن بلده العالم الموسيقي Zoltán Kodály (1882-1967) وتجميع الألحان الشعبية وتصنيفها ومن ثمة استعمال خامتها الموسيقية لصنع موسيقى آلية متطورة ومتميزة عن بقية الموسيقى التي تسمى غربية.
ومن أشهر مؤلفاته متتالية “رقصات رومانية” التي تبرزُ نظريته التأليفية المُغايرة في المعالجة الهارمونية والإيقاعية والمقامية المميزة لشرق أوروبا.
ومن أشهر مؤلفاته متتالية “رقصات رومانية” التي تبرزُ نظريته التأليفية المُغايرة في المعالجة الهارمونية والإيقاعية والمقامية المميزة لشرق أوروبا.
بارتوك يسجّل الغناء الشعبي في قرية داراسز الرومانية عام 1909 ويُذكر في هذا المجال أن المايسترو عبد الحميد بلعلجية والموسيقار محمد سعادة قاما في بداية الستينات بجمع فلكلور الجهات التونسية بمعية المنشد المقرئ حميدة عجاج لحساب الإذاعة التونسية.
لكن عملهم ظل في مرحلته الأولى لأن المناخ الثقافي العام تميّز آنذاك بالتشبث الأعمى بالتراث وعدم المساس به إلا في المعالجة السطحية المسماة “تهذيب”.
ما من شك أن فن الپوليفونيا وما نتج عنه من فنون الكتابة الموسيقية: الكنترپوينت counterpoint (التناقط / تقابل الألحان والأصوات) والهارموني harmonie (التوافق / تناغم الأصوات) هي من إبداعات الحضارة الغربية، ورغم أنهما يستعملان نفس الأدوات المعرفية فإنهما مختلفان من حيث المعالجة ولكل منهما قواعده الخاصة.
فالهارموني هي نظام تراكب وترابط عمودي لعدد من الأنغام بينما يتمثل الكنترپوينت في تراكب ألحان أفقية.
لذلك يرى السلفيون أنها لا تتناسب والموسيقى العربية التي عرف عنها أنها أحادية اللحن monophonique ويعتبرون استعمالها من قبيل التقليد الأعمى للغرب.
والپوليفونيا – مثل الموسيقى نفسها – تشمل في الوقت ذاته الصنعة technique والفن art.
فهي ليست تطبيقا لقواعد أو تراكيب جامدة بل إن استعمالها يجب أن يحقق الغايات التي وضعت من أجلها فتصبح مثل منارة في عرض البحر تعين المبدع والمتلقي معا على سبر أغوار الفضاء الموسيقي واستكشاف جماليات التعبير الفني.
والحقيقة الثابتة أن الغناء أو العزف بتعدد التصويت ليس ابتكارا غربيا إنما هو فعل إنساني قديم تمارسه شعوب كثيرة بصفة تلقائية دون أن تعرف كيف أو لماذا، لكن الحضارة الأوروبية التي قامت على تنمية العلوم والتقنيات السالفة وتوظيفها حسب نسق إنمائي خاص هي التي اعتنت بترتيبها وتطويرها وجعلت منها فنونا قائمة بذاتها.
لهذا السبب دعا بارتوك في خطابه المَخفي عن مؤتمر الموسيقى العربية لعام 1932 إلى ابتكار بوليفونيا عربية من صلبها ورأى أن إنجازَ مثل هذه الخطوة الهامة يتوقف على توفّر موسيقيين عباقرة في الإبداع.
والموسيقي من هذا النوع، حتى وإن كان مُلِمّا بدقائق الموسيقى الأوروبية، سوف يُنتج فنّا مستقلا.
وذكر مثالا لمؤلفات الموسيقار الروسي Igor Stravinsky التي توصف “بالفترة الروسية” أي تلك المتأثرة بالفلكلور الروسي وبالمؤلفات القومية لكبار الموسيقيين وخاصة أستاذه Rimski-Korsakov مثل السيمفونية الأولى روسيا التي كتبها ما بين عامي 1905 و 1907 بحس قومي والتي تبرز مدى تأثره بالسابقين.
ويرى بارتوك في هذا السياق أن الموسيقار الروسي استطاع أن يبتكر أسلوبا بوليفونيّا آسيويا يتّسم بالغرابة بالرغم من كل معارفه في الموسيقى الأوروبية.
ذلك أن ما نجده في أعماله يختلف تماما عن البوليفونيا الموجودة في غرب أوروبا مثل باليه Petrouchka الذي كتبه بين عامي 1910 و 1911 والذي تتميز موسيقاه بهذه الملامح الآسيوية الخاصة.
والبوليفونيا العربية ستكون، بل يجب أن تكون، شيئا آخر عما عرفناه حتى الآن. لعلها ستكون شيئا جديدا تماما.
وقد تكون شبيهة نوعا ما بالأعمال الآسيوية للموسيقار الروسي وربما تكون جديدة تماما.
المهم هو تجريب هذه الخطوة المؤدية من الموسيقى الأحادية (مونوفونيا) إلى موسيقى متعددة الأصوات.
ويواصل بارتوك تحليله للفكرة ويقول إن التطور الحقيقي لا يتحقق إلا بالبوليفونيا وبالتالي فإن المكوث في الموسيقى ذات البعد الواحد عوضا عن التطور لا يؤدي إلاّ إلى التغيير. وإذا كان التغيير في الإيديولوجية ممكنا حقيقة فسوف يُنجَز التطوّر بأسرع ما تمّ في أوروبا حيث كانت البوليفونيا ثمرة جهود تواصلت قرونا عديدة.
(يتبع)