الموسيقار د. محمد الڤَرفي
سمعنا محللا سياسيا عربيا يقول بكل أسى: “لو أن الدول العربية تعاملت مع القضية الفلسطينية بجدية منذ البداية لما وصلت المأساة إلى هذا الحد”.
وشاهدنا ناشطا إسبانيّا ممن كانوا يتظاهرون نصرة للفلسطينيين يصيح في إحدى الفضائيات العربية: “أين العرب ؟
أين المسلمين ؟
أعجب كيف تبقى دولهم الغنية مكتوفة الأيدي وهم يتفرّجون على مأساة إخوانهم ولا يهبون إلى مساعدتهم”.
وسمعنا مواطنا من غزة يتنهد بأنفة:
“إن ما يدخل القطاع من مساعدات لا يكاد يفي بأبسط مقومات الحياة، كل ما يصلنا هي معلّبات فاسدة ورديئة الجودة”.
يا للهول.
ألهذا الحد بلغ الكذب يا باعة الرحمة ونحن نراكم بأم العين تجمعون التبرعات في كل لحظة وتجهّزون كراتين المواد الغذائية بصوت منافق “ساعدوا أهلنا في فلسطين”.
أما تجيدون غير التسوّل واللعب بالكلام على العواطف التلقائية لشعوبكم ؟
إنها حقا كوميديا القرن.
هي النكبة الكبرى التي ابتلى بها أهلنا من أهلهم والنار التي اكتووا بها بعد نكبة الاحتلال، ومن تهجير إلى تهجير وعيون الخيانة ناظرة.
أمريكية يهودية -هكذا تقدّم نفسها- تصف الواقع المرير الذي يعيشه فلسطينيو الداخل المحتلّ وتتحدث بمرارة عن معاناتهم اليومية من التصرفات العدوانية لجيش الاحتلال: “لا أعتقد أن الناس يفهمون ما معنى الاحتلال.
لن تفهم الوضع على حقيقته إلا حين تذهب إلى المناطق المحيطة بالضفة الغربية وحول غزة وتكون قريبا وترى الجدار، وأجهزة المراقبة، وترى أن الكاميرات الموجهة نحو المستوطنين عددها اثنان فقط بينما الآلاف موجهة نحو الضفة الغربية والفلسطينيين ويتم توجيهها مباشرة إلى منازلهم وإلى ساحاتها الخلفية وسطوحها.
وبالنظر لما للإسرائيليين من أجهزة متفوّقة فإن ما يفعلونه هو فعلا مجزرة وإبادة جماعية. إن هذا الاحتلال غير إنساني وليس مبنيا على أساس ديني.
إنه التفوق الأبيض والدكتاتورية والقوة والسيطرة وإذلال شعب لا علاقة له برهائن الحرب”.
وفي محاضرة ألقاها أخيرا في معرض الكتاب الإفريقي بمرّاكش الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي Edgar Morin (1921) يثور من الوجع: “أنا مفاجأ وساخط في آن واحد لأن الذين يمثّلون أحفاد شعب اضطُهد قرونا لأسباب دينية أو عرقية، أحفاد ذلك الشعب الذين هم اليوم صنّاع القرار في دولة إسرائيل، كيف يستطيع هؤلاء أن يستعمروا شعبا كاملا وأن يطردوه من جزء من أرضه بل كلها أمام صمت العالم وصمت الولايات المتحدة حامية إسرائيل، وصمت الدول العربية، وصمت الدول الأوروبية الني تدّعي أنها حامية الثقافة والإنسانية وحقوق الإنسان.
أظن أننا نعيش مأساة فظيعة”.
ويضيف المفكّر الفرنسي: “إذا كنا لا نستطيع أن نتصدى يشكل فعّال فليس لنا أمام هذا الصمت والعجز سوى أن نكون شهودا.
فلنتصدّ في عقولنا. دعونا لا ننخدع ولْنتشجّع ونرَ الأمور على حقيقتها ونفكّر ماذا نستطيع أن نفعل حتى نظل شُهّدا”.
روجي دومارﭪ R. G. Dommergue (1923-2013) هو كاتب ومفكر فرنسي من أصل يهودي يقول إن بينه وبين أبناء جيله خلاف عميق حول شمولية العولمة اليهودية.
فهو ضد الرأسمالية الليبرالية ورأسمالية الدولة (الماركسية) ويعتبرهما وجهين لنفس العملة “المادية” ويُدرج هاتين الخدعتين ضمن مفهوم جديد يسمّيه “اليهودية الديكارتية”.
وبرأيه أن اليهود لعبوا دورا أساسيا في هاتين النظريتين المدمرتين للإنسان.
فهم الذين موّلوا المتقاتلين في حرب الانفصال الأمريكية بين الشمال والجنوب، وهم الذين سرّبوا المواد الأولية إلى ألمانيا عبر سويسرا أثناء الحرب الأولى، وهم الذين موّلوا في ذات الوقت الألمان والحلفاء والثورة البلشفية”.
ويضرب مثلا بالمضارب العالمي اليهودي الأمريكي Georges Soros (1930) الذي يتبجح أنه ليس بحاجة إلى دولة لأن كل دول العالم تخضع لإرادته.
فهو من يقف وراء الهجرة “التخريبية” إلى فرنسا والتيار الإسلامي بها ويموّل الجمعيات المساندة لفلسطين.
وفي لقاء تلفزيوني حذّر دومارﭪ اليهود من أنفسهم قائلا “لأمثاله” (كذا): “توقّفوا عن قتل أنفسكم، لأنكم بتقتيل الإنسانية تقضون على أنفسكم”.
وكما قال سابقا: “لم يحدث في تاريخ الإنسانية أبدا أن تكثفت مقاييس معاداة السامية بالقدر الذي وقع في نهاية القرن العشرين.
تعلمون مثلي أن معاداة السامية ازدهرت عبر كل العصور وفي كل مكان تواجد فيه اليهود.
وإنه لمن الغباء أن نتصوّر أن الناس رغم اختلاف لغاتهم وتباعدهم في الزمن والجغرافيا قد اتفقوا على تبني نفس المعايير لمعاداة السامية. إنها حماقة.
إذن، فهل معاداة السامية متأصلة في أنصارها أم في اليهودي ؟ قطعا، إنها بالتحديد في اليهودي ذاته”.
واللافت للنظر أن الرجل يشكك في أسطورة المحرقة (الهولوكوست) التي انبنت عليها دولة إسرائيل وصدّقها العالم بأسره وهي أن ألمانيا النازية ممثلة في زعيمها أدولف هتلر أبادت ستة ملايين يهودي في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية إذ يقول إن الرقم مبالغ فيه وغير معقول وأن العدد الصحيح يتحدد بين 150 ألف و 700 ألف يهودي على أقصى تقدير.
لقد استطاعت القوى الاستعمارية الأطلسية أن تُقنع العالم بأن المحرقة النازية قضت على ملايين اليهود بينما أثبتت إحصائيات اليونسكو لسنة 1992 أن عددهم الجملي بعد 50 عاما من الحرب وفي كل دول العالم كان قرابة 19 مليون.
فكم كانوا قبل ذلك ؟
كما اجتهدت بعد ذلك أن تحيّد بعض دول الطوق العربية فكبّلت بعضها باتفاقيات مُذلّة ومُهينة وأغرقت البعض الآخر في صراعات مفتعلة، وباعت لفقراء الأمس أغنياء اليوم أوهام الحضارة والتقدّم، لكنها لم تستطع أن تطفئ جذوة العزة والكرامة لدى الشعب الفلسطيني المقاوم.
وإن غدا لناظره لقريب.