الموسيقار د. محمد الڤَرفي
توفيق سُكّر (1922-2017) هو خامس “عُصبة الخمسة” التي اشتهرت “مدرسة بيروت” وأسماها التقليديون تهكّما “عصابة الخمسة”.
وقد آلوا على أنفسهم النهوض بالموسيقى اللبنانية وتطويرها في زمن كان الحراك التقدّمي يتشكّل في جميع المجالات الفكرية والفنية وبعدما اجتمع على أرض لبنان إثر نكبة فلسطين عام 1948 عدد من الموسيقيين الفلسطينيين بين ملحّنين وعازفين “سيتبادلون الأدوار بعد ذلك والتعاون والتكامل في إرساء النهضة الكبرى للموسيقى والغناء في المشرق العربي”.
تشكلت الجماعة في البدء من الأخوين الرحباني عاصي (1923-1986) ومنصور (1925-2005) وتوفيق الباشا (1924-2005) وزكي ناصيف (1916-2004) وتوفيق سكر ثم انفرط العقد واستقل كل واحد بأسلوبه.
وبالرغم عن اختلاف مشاربهم فقد درسوا بقدر متفاوت أصول البوليفونيا الغربية (الهارموني والكنتربوينت والفوغة) مع عازف الأرغن الفرنسي المقيم بلبنان Bertrand Robillard (1905-1964) بالأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة التي ساهم في تأسيسها بمعية المهندس ألكسيس بطرس عام 1937.
اتجه الخمسة في موسيقاهم اتجاها قومياً أسوة بمجموعة “الخمسة الروس” في القرن التاسع عشر مستمدّين عناصر ألحانهم من الفولكلور والألحان الشعبية ومستلهمين من تقنيات الكتابة والتأليف الأوروبي.
ويدين الجماعة لروبيار بأنه وجّههم إلى العناية أكثر بفن التناقط contrepoint لأنه الأنسب للموسيقى العربية ولطبيعتها اللحنية الأفقية فكان لهم بذلك خير مُرشد لبلورة أعمالهم التي اشتهروا بها.
جاء روبيّار إلى بيروت عام 1930 واستقر بها عازفا على أرغن معبد جامعة القديس جوزيف وكاتدرائية القديس جوزيف للإخوة الكبوشيين كما كان من روّاد أساتذة البوليفونيا ووضع فيها كتبا ومناهج لا تزال معتمدة إلى اليوم.
تتلمذ عليه مؤلفون لبنانيون كثيرون توجه بعضهم إلى التأليف في القوالب الغربية وبرعوا فيها مثل بوغوس جيلاليان (1927-2011) وجورج باز (1926-2012) وكذلك توفيق سُكّر الذي تفرّد بتطويع معارفه التقنية للمقامات العربية ذات السلالم الرُبعية مثل السيكاه وغيرها.
ولد توفيق سكّر عامَ 1922 في بيروت فاقدا حاسة النظر وأُجريت له بعد سنوات جراحة مكّنته أن يرى بشكل جزئيّ استعانةِ بنظّارات سميكة لازمته العمر كله.
درس الموسيقى والكمان في معهد بيروت وتقنيات البوليفونيا عند روبيّار ثم انتقل إلى المعهد العالي للموسيقى في باريس حيثُ تخرّج بجائزة امتياز.
وفي عام 1953 عُيِّنَ أستاذاً للنظريّات الموسيقيّة في المعهد الوطني العالي للموسيقى في بيروت فوضع مناهج في التدوين والنظريّات والتحليل الموسيقي والهارموني والكنتربوينط والفوغة والتأليف والتوزيع، كما شارك في إعداد المناهج التعليميّة في القسم الشرقي.
كان لتوفيق سكر رغبة شديدة في تأدية التراث الموسيقي اللّبناني الديني والدنيوي بالطريقة البوليفونيّة الغربية فجمع التراثيات الكنسية والشعبية ووضعها في أربعة أصوات على الرغم من أنها مبنية على سلالم شرقيّة ذات ربع الصوت.
وكان هذا التراث يُتناقَل شفهيا إلى أن نشر المستشرق Jean Parisot في نهاية القرن 19 كتابا في الألحان السريانيّة المارونيّة.
وفي عام 1952 تعرّف إليه الملحّن التشيكي أَلُويِيْس هَابَا (1983-1973) الذي اشتهر بالتأليف في السلالم ذات التجزيئات الصغيرة (micro tonalité) وطلب منه مقطوعة خاصة على هذا النحو من التأليف فجاءَت تحت عنوان Quatuor op. 32 en mi bayat(رباعي في مقام بياتي على درجة مي) “عُزِفَتْ في مختلف العواصم الأوروبية”.
وهي نوع من التأليف لموسيقى الحجرة لأربعة وتريات من فصيلة الكمان يتركب من تسع حركات مبنية على ألحان فلكلورية لبنانية متنوعة الخطوة من البطء إلى السرعة.
عام 1966 ألّفَ توفيق سكّر مجموعة من المقطوعات البوليفونيّة تحت عنوان متتالية فولكلورية لبنانية suites folkloriques libanaises لآلة القانون التي كانت زوجته نينا بختنصّر Nenna Bakhtannassar تؤدّيها على آلة القانون بتقنيّة الأصابع العشر وهي طريقة لم تكن متداولة في ذلك الوقت.
توفيق سكر مع زوجته في بيروت
استلهم سكر في مؤلفاته من التراث اللبناني وصاغها في قالب تنويعات variations على ألحان شعبية لآلة البيانو مثل تحت الزيتونة op. 98 المستوحاة من البنت الشلبية أو طالعة من بيت أبوها ضمن مجموعة 14 قطعة سهلة للبيانو أو أغنية عطشان يا صبايا للصوت والبيانو وهي من التراث الشرقي المشترك:
عطشان يا صبايا دلّوني ع السبيل
عطشان وميّة عَيني أحلى م السلسبيل
جُوعان يا صبايا واللي بْحِبُو بخيل
يا رَيتِ ما تْقُولولو يعطيني وْلَوْ قليل