الموسيقار د. محمد الڤَرفي
لا يزال مؤرخو الموسيقى المصريون يصنفون أبناء بلدهم روّادا للموسيقى البوليفونية في الوطن العربي ويستثنون دون حق مؤلفي المشرق والمغرب الذين سبقوهم في هذا المجال وحققوا فيه نجاحات أكيدة.
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أُنشئ بالقدس عديد المدارس المسيحية التبشيرية وكان الرهبان الفرنسيسكان مِن أوائل مَن علّموا الأطفال والشباب أصول الموسيقى الكلاسيكية الغربية وعلم التدوين بغرض تحضيرهم للخدمة الكنسية في الإنشاد أو في مرافقة المجاميع على الأرغن.
كان “أوغسطين لاما” Augustin Lama (1902-1988) الذي يوصف بأنه أبو الموسيقى الفلسطينية الحديثة وكذلك “باخ فلسطين” أحد أوائل من تعلّم على يد هؤلاء الرهبان، وارتبط اسمه بالنهضة الموسيقية بفلسطين إذ قام بتدريس تقنيات الموسيقى الغربية الكلاسيكية وتتلمذ على يده عديد المؤلفين أهمهم سلفاتور عرنيطة ويوسف خاشو.
ولد أوغسطين بشارة لاما في مدينة الرملة الواقعة على بعد 38 كيلومترا شمال غربي القدس في عائلة مسيحية وتكوّن في مدرسة Saint-Sauveur بالقدس المخصصة للموسيقى فقط حيث درس على الرهبان الايطاليين فرابيشيو وفاتشيني وأصبح في سن الثامنة عشر العازف الرسمي على الأرغن في الأماكن المقدسة في المناسبات والشعائر الدينية.
ويقول بعض رواة سيرته “إنه درس البيانو في الكنسرفتوار الوطني للموسيقى بباريس” وكان يتقن اللغات الايطالية والاسبانية والانكليزية والفرنسية.
كان أوغسطين مؤلفا مهما للجوقة الموسيقية التابعة لحراسة الأراضي المقدسة وكتب مئات المقطوعات في قوالب موسيقى الباروك للمعازف وخاصة الأرغن مثل الفوغة fugue وكذلك القطع الدينية للأجواق الغنائية الكنتاتا والأوراتوريو والأناشيد.
واعتمدت موسيقاه أنماط من القرن الثامن عشر إضافة إلى أساليب الرومانسية المتأخرة.
وتُعتبر مقطوعة Post Laudio (بعد الثناء) التي ألفها عام 1948 من أروع مؤلفاته وعبّر فيها عن يأسه العميق وحزنه فقد أدرك أن بلده فلسطين مزقتها الحرب وأن مدينته القدس مكسورة.
ويقول في حديث لمجلة “الذخيرة”: “أما القطع التي ألفتها فمعظمها قطع كلاسيكية غربية تُعزف في كثير من كنائس أستراليا وإذاعاتها وليس لي في الموسيقى الشرقية سوى بعض مقطوعات أشهرها تحية جلالة الملك عبد الله التي أذعناها يوم استقلال شرقي الأردن”.
عيّنه بابا الفاتيكان عضوا شرفيا في نظام الفرنسيسكان وهو مقام رفيع لم ينله في زمنه سوى أربعة أشخاص في العالم، كما قلّده الملك عبد الله عام 1934 وسام الاستقلال بعد زيارته مدرسة Terra Sancta (الأرض المقدسة) بالقدس.
الملك عبد الله أمام كنيسة القيامة بالقدس عام 1948
وكتبت بعض المصادر عن لقاء لاما بالملك أن لاما كان متوسط القامة، حسن البنية إلى حد ما ويرتدي بدلة غربية وربطة عنق وكان يلبس الطربوش الأحمر على رأسه الكبير.
استقبل الملك بأدب فابتسم الملك وسأله: “لماذا ترتدي هذا الطربوش يا أوغسطينوس ؟ بالتأكيد هذا ليس لك ؟ إنه صغير جدا بالنسبة لرأسك”.
ابتسم الشاب وهو محرج بأدب وقال: لا يا مولاي، إنه ليس لي. اضطررت إلى استعارته من صديق إذ لا أستطيع زيارتك دون أن أرتديه.
وبعد احتساء القهوة معًا، سأله الملك عن بيتهوفن وما إذا كان الملحن مغرمًا بالطبيعة والغابات.
بعد ذلك بوقت قصير، خلع الشاب الطربوش، وبدأ في عزف حركة Adagio sostenuto من “سوناتا” Clair de lune (ضوء القمر) لبيتهوفن، وانتهى بعزف المقطوعة القوية الملهمة.
ويمكن أن نستشفّ من هذا اللقاء الذي جمع الرجلين صورة العلاقة التي كانت بين الموسيقيين وأولي البلاط في القرون الماضية.
فقد نشأت بين عبد الله الأول ملك الأردن وأوغسطين لاما صداقة تشبه تلك التي جمعت الموسيقار جان سيبستان باخ (1685-1750) والحاكم البروسي لودفيك براندبورغ Margrave Ludwig de Brandebourg وأهداه مؤلفات Concertos brandebourgeois الموضوعة لآلات متعددة.
جان سيبستيان باخ شابا
(يتبع)