بقلم: عبد الحليم المسعودي
في متلازمة ميديا
في عرض البحر المتلاطم للميثولوجيا وللتراجيديا الإغريقية شكلت ميديا بالنسبة للمسرحيين طوال قرون صخرة صلدة من الفتنة الآسرة التي تجر إليها الشعراء المسرحيين (خاصة الذكور منهم) لفهم الفعل “الشنيع” الذي أقدمت عليه والذي يشكل “عقدة المنشار” لهذه الغواية نفسها التي تمارسها ميديا على هؤلاء الشعراء والتي خلخلت من خلالها مفهوم الفعل التراجيدي المنتسب دائما للبطل الذكوري، بل أن الأمر تجاوز الغواية الشعرية إلى ما هو أبعد حين عادت “ميديا” في الزمن الحديث على يد المشتغلين في حقل علم النفس والتحليل النفسي و الطب النفسي في ربط جملة من العوارض المرضية ونسبها للنموذج ميديا. نعتقد أن هذه الغواية التي تمارسها ميديا على المبدعين الذكور منذ رائعة المخرج السينمائي والمسرحي بازوليني تكاد تشكل عند البعض نوعا من الفونتازم المتكوكب حول تلك الجملة الشهيرة التي كتبها سينيكا Sénèque في ميدياه حين قال: “أنا الآن ميديا” (Medea nunc sum)، والتي تعلن بشكل مربك ميلاد النموذج الجديد من البطل التراجيدي الأنثوي الكاسر إلى كل صورة سابقة أو لاحقة للمرأة التي تحاول الأعراف والقوانين الإلهية رسم مجال أفعالها واندفاعاتها وحضورها في دوائر المقدس والدنيوي.
ويبدو كأننا أمام أن هذا الشغف اللامنقطع عند الشعراء المسرحيين الذكور، نجد أنفسنا أمام ما يشبه “متلازمة ميديا” (Syndrome de Media) أو على الأقل أمام نداء متلازمة ميديا يعترض كبار المبدعين (من يوريبيدس إلى هاينر موللر Heiner Muller مرورا بــ غريلبارزر Grillparzer، و يان Jahnn، آنوي Anouilh وداريو فو Dario Fo دون نسيان بازوليني Pasolini ولارس فون تراير Lars Von Trier)كما تعترض أصوات الحوريات في التغريبة الأوديسية… لعلها الرغبة الجارفة أن تُحوّل ذوات هؤلاء المشتبكين مع ميديا إلى معانقة هذا النموذج الأرخيتيــبــــي والذوبان فيه والالتباس به. وضمن هذه الغواية الآسرة التي تمارسها ميديا أذكر أن المخرج الكويتي سليمان البسام كان يقول كل مرّة على الخشبة في مسرحية “آي ميديا” على لسان شخصية المؤلف المسرحي المعطوب من زيجة فاشلة ومن عدم إنجاح الحداد على علاقته العاطفية مع طليقته (ميديا) أنه تمنى أن يكون ميديا أو أن يمثل دور ميديا، ميديا ذاتها، ميديا يوريبيدس حين شاهدها أول مرة في الرائعة السينمائية لبازوليني.
وإذا كان “سندروم ميديا” يعني في جملة ما يعنيه في الطب النفسي أسلوبا في التحرش السادي يمارسه أحد من الأزواج تجاه القرين الزوجي الآخر قصد معاقبته ومنعه من حقه في التواصل مع أطفاله (4) ، فإنه في مجال الإبداع يرتسم هذا التحرش السادي في منطقة سوداء كثيفة الظلال لا نعرف ضحاياه، فهل هم هؤلاء المبدعون أنفسهم وهم يكشفون عن بواطن لا وعيهم العاطفي، أم هم مندفعون لا إراديا بإعادة صياغة هوية غيرية لذواتهم تعويضا عن آلام جراح نرجسية، أم أن الأمر يعد صراحة إمكانية لاختراق النظام الحديدي للذهنيات العامة في رسم حدود الجندرية، ودون ذلك ما الذي يفسر كل هذا الشغف بميديا؟
في هذه الحالة من الرغبة أو الفونتازم في التحول من هوية الذكورة إلى الأنوثة رمزيا يحتاج المؤلف إلى نوع من التقنّع أو التنكر (un travestissement) الذي يجعله في مصاف المتنبئ الذي سُلّط عليه العقاب تماما كما هو حال ترسياس في أوديب ملكا ينبت في صدره ثديان متهدلان كثدي السعلاة (الغولة)، تصوروا المؤلف وهو يمتلك ثديين شاحبين، ثديين كعلامة عقاب عن حنث بالقسم، أنها صورة تبعث عن القلق والفزع.
“ميديا” … شهوة، فونتازم، رهان قاتل، لعلها، منذ خمس وعشرين قرنا من حياة الإنسان المتحضر، هي التراجيديا الأكثر غواية وطغيانية في مخاطبة للبسيخي Psyché لا لأنها التراجيديا الأكثر دموية وقسوة وجنونا، بل لأنها التراجيديا التي أزاح من خلالها يوريبيدس مبكرا أكبر ثاني التابوهات البشرية وهو الرغبة في قتل الأبناء بعد أن أزاح سوفوكليس في أوديب ملكا أولى تابوهات زنا المحارم وقتل الآباء… لا يستوي التابو إلا بشرط الرغبة المنتصرة على قمع الرغبة، و لا تستوى الرغبة إلا في الاعتقاد بأن الإنسان لا خلاص له إلا بالتخلص من قرين الإثم والشعور بالذنب والخطيئة الأولى عبر بناء وعي الحرية، الحرية المطلقة اللامتجزئة هذا ما فتحته “ميديا” بشكل متوحش دفعة واحدة وبعنف لا يحتمله العقل المتحضر.
إن غواية “ميديا” التراجيديا الذي تمارسه علينا إلى اليوم كامنة في اختراق الشعور بالعار في مجتمعات العار واختراق الحرام في مجتمعات الشعور بالإثم، وغوايتها أيضا أنها ناهضة إلى اليوم كأمثولة متكررة تدعو فيما بعد مجتمعات الوثنية وفيما بعد مجتمعات التوحيد الإعجازي إلى وضع حد للتناسل البشري.
تراجيديا يوريبيدس أم فاجعة الجعايبي؟
وأنا أسند ظهري للحائط القرميزي في قاعة الفن الرابع لمشاهدة مسرحية “آخر البحر” وأتأمل الخشبة العارية قبل انطلاق العرض استغرقني التفكير في عنوان المسرحية المكتوب على معلقة المسرحية. وانتبهت إلى أن العنوان الفرعي الملحق يقول “عن ميديا فاجعة أوريبيداس، القرن الخامس قبل الميلاد”. وفهمت من ذلك أن مسرحية “آخر البحر” هي اقتباس عن التراجيديا الشهيرة للشاعر الإغريقي يوريبيديس، وأن العنعنة (عن) الواردة في العنوان الفرعي تعني بإن المسرحية هي إقامة سردية جديدة للسردية اليوريبيدية بكل ما تحمله هذه العنعنة من تصرف وتحويل وجهة وتركيب وإضافة وإعادة كتابة أي كل ما تحويه العملية الدراماتورجية من تصرف حر وابتداع تجاه النموذج الأول الذي يظل خلفية ومنطلقا أن لم يكن مجرد تعلة.
ولأن الجعايبي لا يترك الأشياء اعتباطية مهما صغرت أهميتها –وهذه إحدى ميزاته -فكأن عنوان المسرحية يقول في المعلقة السوداء الخالية من كل صورة والمكتوبة بخط أزرق إنها “ميديا” القادمة من القرن الخامس قبل الميلاد كموجة محتضرة قادمة من بعيد من آخر البحر تماما كما يصل ضوء النجم إلى أبصارنا وقد وصلنا بعد سنوات ضوئية من أفوله في السديم. والمثير للانتباه أيضا أنه تم إبدال عبارة “تراجيديا” والتي تعني الجنسي الدرامي النبيل في الشعر الإغريقي إلى عبارة “فاجعة”، والحال أن عبارة “تراجيديا” هي عبارة متأصلة في اجتهاد الترجمان العربي القديم الذي حافظ على العبارة كما هي في اللغة الإغريقية القديمة “طاراغوذيا” حين حاول ترجمة كتاب البيوطيقا (فن الشعر) لأرسطو، وأن عبارة “تراجيديا” التي نستعملها اليوم هي على قياس ما يستعمل في اللاتينية والجرمانية.
و لا ندري من أين أتى الجعايبي بعبارة “فاجعة” التي لا تضاهي لا في الدلالة و لا في السياق المسرحي ما تعنيه عبارة “التراجيديا” نفسها، ذلك أن عبارة “فاجعة” والتي استعملها بعض المشارقة في ترجمة التراجيديا لا نظنها توفي بالغرض، كما أن هذه العبارة “فاجعة” في حد ذاتها لا تفي بالغرض لحدود دلالتها التي لا تتجاوز عتبة التوجع والتضوّر للرّزية أو المُصيبة، إذ الفاجعة مفرد للفواجع وهي “المصائب المؤلمة التي تفجع الإنسان بما يعز عليه من مال أو حميم”(5) ، كما ورد ذلك في اللسان عند ابن منظور، ولا أظن أن تراجيديا يوريبيدس تنحصر في حدود هذا الدلالة التي تحدها عبارة “فاجعة”، ذلك أن التألم للرّزية أو المصيبة قد يكون أمرا غير محتمل و لكن ليس بالضرورة تراجيديا.
وعليه لا نظن أن الجعايبي حين اختار هذه العبارة بالذات، أي “فاجعة”، كان اختيارا اعتباطيا إنه يضمر دلالة أخرى قد لا يوحي بها عنوان المسرحية في مجمله للوهلة الأولى، وظننا أنه يتقصّد ذلك كخلق مسافة ما من سطوة “ميديا” يوريبيديس من ضمن استراتيجية نوع من “التغريب الإستباقي” (Distanciation préventive) الذي يسمح له بالتصرف الدراماتورجي والقراءة الجديدة الممكنة لسردية “ميديا” من زاوية رؤى جديدة ممكنة تنزيل واختبار التراجيديا على محك الراهن المعاصر. وأمام هذا الاختيار الدلالي الذي يضمره المخرج المؤلف تجاه المنطلق اليوريبيدي فمن الواجب الاحتفاظ بأن قناعة ما حاصلة عنده في كون التراجيديا الإغريقية كما هي في المدونة الخاصة بها قد لا تفي -وإن كانت منطلقا على درجة كبيرة من الغواية والاستفزاز-بالقدرة على الحديث عن الراهن اليوم واستيعابه وإن تردّد عود الأرخيتيبي (l’archétypique) في مثال ميديا في حيوات المجتمعات المعاصرة، وإن تردد كذلك فعل قتل الأمهات للأبناء في كل الأزمان وفي كل الأمكنة أو ربما كدافع للموت يُستهدف به “الرجل القديم” كما يشير إلى ذلك سارج لوكلار Serge Leclaire (6)، أو كأمر محسوب على طيف الأمراض النفسية والتي حاول علم النفس محاصرتها و تفسيرها والطب النّفسي علاجها.
كما أنه من الواجب عمليا في سياق هذا المقال النظر في بنية ميتوس أو حكاية مسرحية “آخر البحر” باعتبارها سليلة بشكل غير مباشر لميتوس “ميديا” يوريبيدس. ولا يمكن إنجاز ذلك عمليا إلا بترصد المفاصل الكبرى للتراجيديا اليوريبيدية في مسرحية آخر البحر “والوقوف على المنعرجات أو التمفصلات الجديدة التي أنجزنها العملية الدراماتورجية التي قادها الجعايبي مع فريقه. إن هذه العملية شبيهة بتسليك خيوط الذهب من كومة عوسج.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
(4) – Antonio Andreoli , Le syndrome de Médée, parcours sadique de la perte d’amour, Revue Médicale Suisse,n°236, Février 2010.
(5) – أنظر مادة “فجع” (باب الفاء)، لسان العرب لأبن منظور، الجزء السابع، ص 30، دار الحديث القاهرة 2003.
(6) – Serge Leclaire, On tue un enfant, Seuil, Paris 1975.