بقلم: عبد الحليم المسعودي
“ميديا” يوريبيدس، ميثوغرافيا مختزلة
من الواجب التذكير أن “ميديا ” يوريبيدس هي خلاصة توليفية وليست اجتراحا ابداعيا من لدن الشاعر التراجيدي نفسه. وهو توليف متقن عند يوربييدس الذي وظف مهارته الديالكتيكية بحكم علاقته وتتلمذه المتين على يد سقراط في استيعاب وصهر المتناقضات في الآثار السّابقة له.
فيوربيديس كما يشير إلى ذلك نيتشه “كائن نظري” (l’homme théorique) بامتياز (7) يتعامل مع المادة المعروضة أمامه سواء ما سبق من تراث إغريقي أو فيما يخص أعمال زملاءه من الشعراء التراجيديين بعين الناقد العقلاني الذي يتقن الصهر والتركيب والتوليف بشكل احترافي، وكأنه بذلك – وهذا رأينا – يدشن بشكل مبكر العملية الدراماتورجية قبل أوانها وقبل نشوء ما يسميه برنار دورت بخصوص برتولد بريشت بـ “الذّهنية الدراماتورجية”. ولا غرابة أن أرسطوفان الشاعر الكوميدي في مسرحيته الشهيرة “الضفادع” وفي سياق الموازنة بينه وبين اسخيلوس يصور بدقة على لسان يوريبيدس نفسه الطريقة المعيارية والعقلانية والإستلافية التي يؤلّفُ بها أعماله (8).
فمسرحية “ميديا” سابقة في الحقيقة لتراجيديا يوريبيدس بل سابقة أصلا كما يشير إلى ذلك أنطونيو ميليرو Antonio Melero نشوء المسرح الإغريقي ذاته،كما أنها حاضرة في جميع أشكال الشعر المسرحي الإغريقي سواء في الكوميديا أو في الدراما الساطورية أو التراجيديا (9). والثابت أن “ميديا” يوريبيدس استفادت أيما استفادة عن طريق التناص من أعمال سابقة وعلى رأسها مسرحية “ميديا” للشاعر التراجيدي نيوفرون السيقيوني Néophron de Sicyone (10). وهذا يدل مرة أخرى على أن ميديا السردية هي مشاع أسطوري ثقيل ما فتئ الشعراء يستثمرونه على أوجه عدّة.
وبقطع النظر عن التدبير التوليفي الذي قام به يوريبيدس في بناء تراجيدية “ميديا” انطلاقا من المواد السابقة التي استفاد منها وصهرها في عمله التراجيدي فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ميديا الميثولوجيا تستغرق مدى جغرافية شاسعة تشكل في مجملها ما يسمى بـ ميثوغرافيا (Mythographie) ميديا، وهي كما يشير هنري زولمان Henri Sztulman تتوزع على خمس محطات أساسية تبدأ بمغامرة سرقة الجزة الذهبية و تنتهي بتأسيس مملكة الميديين مرورا بارتكاب ميديا قتل طفليها انتقاما من جازون ثم لجوئها إلى أثينا، وهذه المحطات على التوالي هي: محطة كولشيد Colchide ومحطة ثيسالي Thessalie ومحطة كورانثيا Corinthe ومحطة أثينا Athènes ثم محطة النفي والعودة إلى الموطن الأصلي كولشيد (11).
وكما هو جلي فإن هذه ميثوغرافيا التي تحتضن في طياتها سلسلة من الفظائع التي تقدم عليها ميديا هي في شكل دورة (cycle) أو كيكلوس (kyklos) بالمعنى الإغريقي التي تخضع له الملحمية والميثولوجية تبدأ من كولشيد الموطن ثم العودة إليه وكأن تغريبه ميديا كلها هي عبارة عن فعل واحد هو “عودة الابن الضال” قبل ظهور مفهومه الإنجيلي.
والجدير بالتذكير أن يوريبيديس فيما يمكن أن نسميه بدراماتورجيا ميديا قد لخص أهم أفعال هذه الميثوغرافيا في ضربة واحدة أو في نزول سيل واحد من عل في تراجيديته الشهيرة مسلطا الضوء وبشكل استثنائي على فعل مركزي هو ارتكاب الفعل الشنيع التي قامت بها ميديا تجاه جازون بقتل طفليهما وحرمانه انتقاما لنفسها منه ومن خيانته للقسم المقدس الذي كان بينهما. واستطاع يوريبيديس ببراعة وسلاسة سرد كامل تلك الميثوغرافيا الشاسعة عبر الإحالات والتلميحات التي يثيرها هنا وهناك على ألسنة الجوقة أو المرضعة أو الحاكم وحتى في الحوارات والحوارات الستيكوميسية القائمة في المدونة سواء بين ميديا وجازون أو بين ميديا وكريون أو بين ميديا وإيجي أو بين ميديا والرسول. وعملية الصهر الاختزالية تلك التي قام بها يوريبيديس جعلت من بنية تراجيديا ميديا قائمة على مبدإ الطلقة التي لا ترد والقائم على القرار الفظيع الذي اتخذته ميديا في الانتقام من كل في حدود فضاء كورانثيا المعادي والذي يضيق عليها ويلفظها في ذات الوقت. إن مسار ميديا في تراجيديا يوريبيديس هو مسار تصاعدي لا يقاوم لامرأة قرّرت أن تسترد كرامتها بالمكر والدم.
دراماتورجيا “آخر البحر”، توليف التوليف
ليس من السهل اليوم إعادة توليف على منوال التراجيديا الإغريقية على خلفية الراهن. فللتراجيديا حدودها ومنطقها الداخلي الذي لا يقبل أي اختراق، إنها ببساطة ليست بمنوال يحتذى، وليس النظام الذي أقره أرسطو في البيوطيقا للنفاذ إلى روح التراجيديا أو إعادة صناعتها بإمكانه أن يعين الدراماتورجيا اليوم بصفتها ممارسة إجرائية على أن تشيّد “المعمار النبيل” للتراجيديا لأن هذه الأخيرة حوّلت نفسها وبحكم ما أحكمته من قوانين داخلية جعلت منها إلى جنس درامي يتراءى كمساحة حرام.
ولم يبق من إمكانية ولوج عوالم التراجيديا إلا التشرد والتهويم في أطرافها أو في متاهتها الصحراوية. وأظن أنه ليس من مخرج من هذا المأزق في مواجهة التراجيديا إلا بتَمَثّلِ وفهم “التراجيدي”(le tragique) لأنه الإرث الوحيد الذي ظل قابلا للتقاسم، تقاسم المحسوس. ونعتقد أن التراجيدي هو البوابة السرية الوحيدة التي يمكن من خلالها استبطان التراجيديا، وعلى المؤلف المعاصر أن يلتقط تلك الفجوة السرية الي تمكنه من الولوج إلى عالم التراجيديا المفترض. إن الجعايبي كمؤلف دراماتورج – سواء بمفرده أو مع جليلة بكار- قد تربّت كتابته المسرحية في إطار أزمة الدراما، فجل أعماله المسرحية تنخرط بشكل ما في دائرة الدراما الحديثة (Le drame moderne) حيث يكون التمسك بالبنية الدرامية مسألة أساسية مع سعي دائم للتمرد على هذه البنية دون الخروج التام عنها ولذلك تراه يؤمن إيمانا يقينيا بالخرافة أو ميثوس كقاعدة صلبة لكل مشروع مسرحي.
ولأن الخرافة هنا في مسرحية “آخر البحر” تعتمد سردية ميديا اليوريبيدية فإن المسألة على مستوى الدراماتورجيا ستمثل بالنسبة إليه – وإلينا أيضا كقراء -تحديا كبيرا. فغيره مثلا ذهب إلى التفكيك إلى أقصاه وعلق كل الخرافة على المونولوغ الواحد لميديا مثلما هو الحال بالنسبة لـ هاينر موللر Heiner Muller في “ميديا – مواد” Médée-matériau وأجهز على الخرافة الأصلية أصلا و جعلها مزقا على لسان جسد متوغل في التألق الأدائي أي البرفورمونس تأكيدا لحالة التشظي ودلالة على الانقراض الويشك للإنسان على شاطئ الاستهلاك و النفايات. كما أن غيره والمثال قريب وهو ما قام به المخرج الكويتي سليمان البسام في دراماتورجيا “آي ميديا” حين عمد بمكر المراوحة بين ميديا يوريبيدس وسينيكا وبين ميديا المعاصرة كاشف على اللعبة الدراماتورجية بكل سخرية ومراوغة تجمع بين التمسك بالخرافة وتدميرها في ذات الوقت استدراجا للتراجيدي.
إن أهم عملية قامت عليها الدراماتورجيا عند الجعايبي للولوج إلى دائرة التراجيدي هو إدراك تردّد الأرخيتبي (l’archétypique) بما يحمله هذا الإدراك من مقاربة تعتقد في وجود نموذج قديم أو بدائي يعيد تمظهره في اللاوعي الجمعي (l’inconscient collectif) حسب نظرية كارل غوستاف يونغ Karl Gustav Jung في علم النفس التحليلي (la psychologie analytique) وكذلك تشغيل لرصيد التأويل البسيكولوجي في التحليل النفسي الفرويدي. وهو الذي يجعل من العملية الدراماتورجية في جوهرها استراتيجية تقوم على تكنيك تقريب التماثل لهذا الأرخيتيبي عبر تبيئته (acclimatation) في الزمن الراهن.
وهو ما يعني عمليا بناء سردية “جديدة” لميديا عبر إخفاء الأسس، أي أسس البناء لميثوس (muthos) ميديا يوريبيدس وبناء صرح درامي جديد قائم على تركيب درامي على بنية قديمة تم استيعابها وتذويبها بشكل مكتمل الكلية. وهذا يعني عند الجعايبي الحفاظ على عظام الهيكل اليوريبيدي وخاصة مواضع التمفصل بين عظم وآخر… ولذلك فحسب فإن هذه الدراماتورجيا والتي يبدو أن موضوعها راهني ودقيق على المستوى المرجعي إذ أفعال المسرحية تحدث في تونس في سياق العشرية الأخيرة التي شهدت تحولات سياسية على إثر ثورة 14 جانفي 2011 فإنها في علاقة وطيدة ومباشرة بميديا يوريبيدس.
ولكن كيف فعل الجعايبي ذلك؟
مُحاسَبَةُ من لا يُحَاسَب
لا أحد قادر على محاسبة ميديا لأنها ببساطة كائن إلهي فوق جموع البشر الفانين إنها حفيدة هيليوس Hélios الإله الشمس. في تراجيديا يوريبيدس وبعد أن تنتقم وترتكب فعلها الشنيع تذكر جازون أنها تملك مركبة قتال هو حصنها هبة من الشمس ضد كل يد عدوة، وفي تراجيديا سينيكا تذكر ميديا في آخر حديث لها أن عربة في الأعالي يجرها ثعبانان مجنحان في انتظارها. هذا ما تؤكده التراجيديا القديمة عن الأسطورة حول طبيعة ميديا. وهو ما يدل على أنها فوق كل عقاب بشري يمكن أن تواجه به من قوانين البوليس كورانثيا.
ولأن الجعايبي كما أشرنا ينظر إلى ميديا التي تحولت في “آخر البحر” إلى عاتقة اليمنية الناهضة من أوحال ثورات “الربيع العربي” بوصفها أرخيتيب يمكن أن يتكرر ظهوره في كل المجتمعات بما فيها مجتمعاتنا العربية الراهنة، أي تردد ظهور نماذج نساء قتلن أطفالهن انتقاما من أزواجهن أو لأسباب أخرى، فإن محاكمة هذه المرأة أو على الأقل مساءلتها عن فعلتها تلك تظل مسألة ممكنة. وهذا ما قام به الجعايبي وهو يُنزّل ميديا من عربتها الطائرة نحو الشمس إلى حظيظ هذا الواقع المتلاطم وضمن أنظمته وأنساقه الثقافية والاجتماعية وأعرافه الأخلاقية والقانونية السياسية.
وهو ما يعني أن هذه الدراماتورجيا القائمة في مجملها على مبدا “توليف التوليف” سوف تجعل الحكاية عنده تبدأ من حيث تنتهي سردية ميديا اليوريبيدية وسوف تتوسع في اتجاه هذه المسائلة للشخصية المحور الذي تدور حولها كل الأفعال والأقوال وهي شخصية عاتقة /ميديا مكتسبة كل مرّة مواطئ مساحات تشد هذه السّردية إلى الواقع وإلى الراهن. وكأن أن هذه الدراماتورجيا سوف تقوم بمهارة لا غبار عليها لتذكيرنا بالمفاصل الكبرى المؤسّسة لسردية ميديا التراجيديا عبر تدبّر ذكي قائم على التذكير بوصفه تقنية لمح استرجاعية لأهم البؤر الكامنة في التراجيديا اليوريبيدية، وكذلك عبر تكنيك الإبدال أي تسمية الأشياء القديمة بمسميات معاصرة.
وعلى هذا الأساس ولأن الجعايبي خبر تكنيك المساءلة في قالب التحقيق (instruction) واستثماره في أعمال سابقة نذكُر منها على الأقل أعمالا مثل مسرحية “التحقيق” (ضمن تجربة المسرح في فرقة المسرح الجديد) ومسرحية “فاميليا” (في شخصية المفتش المتسلل لعش الأخوات العوانس) وفي مسرحية “خمسون” (التحقيق والتحقيق المضاد بين الجلاد والضحية) فإنه يعود هذه المرّة لاستعمال نفس تكنيك التحقيق في “آخر البحر” لكنه تحقيق يظل مجرد آلية يعتمد عليها لبناء سردية جديدة. كما أن هذه الدرماتورجيا عنده تراهن أيضا إلى جانب تكنيك التحقيق -الذي يكاد يكون محاكمة-على استعمال تكنيك التوليد الديواني (la maïeutique du divan) في الطب النفسي القائم على مساءلة الطبيب النفسي للمريض قصد التوغل في نوع من سبر أغوار الشخصية والتكشف على دوافعها العميقة. وهذه التقنية أيضا سبق وأن جرّبها الجعايبي في مسرحيته “جنون” حيث أن حوار الطبيبة النفسية مع المريض الفصامي “نون” هو جزء من مهمة رسم مسار الشخصية المسرحية. ولقد سبق وأن أشرنا بخصوص هذه المسرحية بالذات كيف أن تكنيك المحاكمة “عملية توليدية وانشائية في نفس الوقت. المحاكمة عند الجعايبي تقنية في استنطاق للشيء الغامض المتكتم على نفسه أو المشكوك فيه”(12).
ويبدو أن الجعايبي يستعمل التقنيتين معا أي التحقيق والتوليد المتوسلتين للاعترافات سواء فيما يتعلق باعترافات عاتقة/ميديا واعترافات الجازي/جازون من خلال ما تقوم به محققة الحق العام أو ما يقوم الطبيب النفسي.
إذن ما الحكاية في “آخر البحر “؟
(يتبع في العدد القادم )
الهوامش والإحالات
(7) – Michel Haar, Nietzche et Socrate, (in) L’Herne, n° 73, Editions de l’Herne,Paris 2000,p,196 .
(8) – voir le dialogue entre Eschyle et Euripide sous l’assistance de Dionysos dans Les Grenouilles d’Aristophane, (in) Aristophane, Théâtre complet 2, Traduction de Marc-Jean Alfonsi, GF/Flammarion, Paris 1966, pp, 273-274.
(9) – Antonio Melero, Les autres Médées du théâtre Grec, (in) Pallas,n°45/1996,Médée et la violence .pp.57-68.
(10) – Ibid., p, 64.
(11) – Henri Sztulman, Le mythique, le tragique, le psychique : Médée. De la déception à la dépression et au passage à l’acte infanticide chez un sujet état – limite .In Pallas, 45 /1996.pp,128 – 130.
(12) – أنظر مقالنا النقدي “ملامسة الفصام الجماعي في مسرحية جنون للفاضل الجعايبي”، جريدة الصحافة عدد 16 فيفري 2001.