بقلم عبد الجليل المسعودي
أقال الرئيس قيس سعيّد يوم الثلاثاء، 12 مارس، السيدة حياة قطاط القرمازي من منصبها كوزيرة الشوؤون الثقافية.
هذه الإقالة لا تبدو قد أثارت كثيرا من الحسرة في الأوساط الثقافية. فالوزيرة لم تترك، رغم مهمة دامت حوالي سنتين ونصف السنة، إنجازاتٍ تؤرّخ لمرورها على هذه الوزارة العريقة والتي أرادها مؤسسو الدولة التونسية الحديثة حجز الزّاوية في بناء الشخصية التونسية ودافعة تمنيتها وصائنة قيمها الحضارية.
لم نلمس من الوزيرة المُقالة ما يشبه مشروعا أو حتى تصورا عاما جديدا محددا في محاوره، عمليا في تنفيذه، واضحا في اهدافه ومراميه لاصلاح مؤسسات الإدارة الثقافية، والنهوض بمستوى مردوديتها في مرحلة تُعتبر مفصليّة من حياة البلاد. والانطباع العام انها، أي الوزيرة، اكتفت كامل المدة التي قضتها على رأس الوزارة بإدارة الشؤون اليومية ومواصلة الأنشطة العادية، والتي تتخلص إجمالا في تظاهرات موسمية موجّهة للاستعراض والترفيه: مهرجان قرطاج، مهرجان الحمامات، مهرجان دقة، مهرجان المسرح، مهرجان السينما، مهرجان الأغنية، مهرجان العرائس، مهرجان الشعر…حتى ان الوزارة اضحت وزارة المهرجانات المتوالدة بعضها من بعض والمتساوي اغلبها في الرداءة.
لم نشهد مع الوزيرة السابقة خطة للنهوض بالكتاب الذي يبقى أساس العمل الثقافي الحقيقي، ولم نشهد، بالنتيجة، عناية بأهم نشاط موكول للوزارة: دعم المطالعة العمومية وتطويرها.
لم نر مجهودا بارزا بيُبذل في مجال المحافظة على التراث، المادي منه والّامادي على حد السواء، ناهيك عن تنميته وتثمينه. فالحدائق الأثرية مهملة أو تكاد، والمدن الحديثة على وشك فقدان ثرواوها المعمارية تحت زحف الفوضوية والقبح، ومؤسسات فنية كان لها تاريخ ودور في بناء الذوق التونسي ورفعته هي اليوم بصدد التلاشي، أعني على سبيل المثال فرقة الرشيدية وقيمتها ورمزيتها، ومن وراءها فن المالوف التونسي المغاربي الأندلسي الذي كان إحدى رايات الثقافة الوطنية.
لم نعلم سعيا من الوزارة لبذل جهود متضافرة مع وزارات أخرى متقاربة، وأولها وأهمها وزارة التربية، لتحقيق حق الناشئة في تربية فنية جادة تضمن نموّها المتكامل وتجذرها في ثقافتها الوطنية.
لم نلحظ توجّها فعليا لبناء صناعات إبداعية، رغم ما توفّره اليوم منصات الإنتاج والنشر والتوزيع الرقمية من إمكانيات واسعة، وضمان منتوج يقف أمام هيمنة المؤسسات الإعلامية الخاصة التي تزيد كل يوم من اغراق التونسيين في الضحالة والتفقير الفكري.
والخلاصة أن الوزيرة غادرت الوزارة دون أن تضف شيئا يذكر للعمل الثقافي رغم توفر الإمكانيات والامكانات من هياكل أساسية، وزاد بشري، وحاجة الى الغذاء الثقافي تشحذها تقاليد راسخة في البحث والاقبال عن العمل الجيد، تدعمها المساندة المتزايدة للراعين الخواص من مؤسسات اقتصادية ومالية.
ولكن، وحتى نكون منصفين، فإن الوزيرة المُقالة لا تتحمل وحدها مسؤولية وضع الثقافة المتردي، فهو نتيجة تراكمات على مدى سنين طويلة، إن لم نقل عقودا، لم يعرف فيها القطاع الثقافي، رغم اجتهاد البعض ممن تولوا تسيير الوزارة، مشروعا شاملا ومركّزا حول الأهداف المعلومة المتمثلة في تمكين الإنسان التونسي اينما كان من التمتع بمنافع الثقافة والوصول الى انتاجات المبدعين وطنيا وعالميا بما يساعده على بناء ذاته بناءًا قويا، متوازنا، متأصلا ومتفتحا. غاب المشروع فكبرت هوة الفراغ الذي سارع الى استغلالها صغار تجار الترفيه ومنظّمو الحفلات، وفرضوا على الوزارة دور مديرة مهرجانات كبرى، فتخلّت بذلك عن مسؤولية التثقيف والتوجيه والتوعية التي هي مسؤوليتها الحقيقية. وغابت في الاثناء منابر الحوار، وصمتت دوائر التفكير، واختلط الرديء بالجيّد وسقطت الثقافة التونسية في محليّة خانقة بعد ان كانت في الماضي مثالا يُحتذى في العالم العربي.
تعلّمنا من متابعتنا للشان الثقافي ان وزارة الثقافة التي تُعدّ وزارة سيادة باعتبارها مسؤولة على تنمية الفكر والروح، ينجح في تغييرها احد هذين الشخصيتين. إما شخصية علمية وازنة تشعّ على الوزارة وتشعّ بها الوزارة. وإما شخصية عارفة بأروقة الثقافة قادرة على تنشيط الحياة الفكرية والفنية ومن توليد البرامج ومنح المبدعين والمنتجين الثقة والطموح. أي اختيار ثالث قد يؤدي إلى ارتكاب الكاستينغ الغلط l’erreur de casting