بقلم : عبد الحليم المسعودي
ميثولوجية الجديدة لِدكّ الحُصُون
“عاتقة” كما يدل اسمها القديم في لغة الضاد وهي المرأة المُحَرِّرَة، أي مُحرّرة الرّقاب وليست تلك التي تم تحريرها. وهذا الاكتناز الدّلالي للاسم وللوظيفة الذي يدلل على إرادة الحرية والنبالة والسّيادة والمنعة و”الفحولة الأنثوية” يكفي لأن يكون عنوانا صريحا على ثقل هذه الشخصية التي يجترحها الجعايبي كميثولوجيا جديدة.
الثابت أن “عاتقة” الهاجري هي نموذج ممكن لامرأة يمنية معاصرة وفي بحر هذه العشرية أو تزيد من التاريخ الراهن العربي العام والتونسي الخاص واليمني الأخص… هكذا أرادها مؤلفها، وهي ليست بالنموذج (أو النماذج) التي أفرزها الحراك في برهة “الربيع العربي” … فهي مثلا ليست توكل كرمان (جائزة نوبل للسلام 2011) التي صنعتها ماكينة الثورات والحراك السّياسي والحقوقي -وإن اشتركت مع “عاتقة” في الموطن والنشاط- بل هي المرأة العتيقة القادمة من بكارة المجتمعات العربية القديمة التي لا تزال تحافظ في جيناتها الوراثية على ذكرى المجتمعات الأمومية حيث تلعب المرأة دورا أساسيا في تلك المجتمعات ويكفي فقط أن نذكر ببعض النساء وحضورهم الآسر في شؤون الجماعة الاجتماعية في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده حتى نتمثل شجرة القرابة التي تنتمي إليها عاتقة الهاجري بثقله السّياسي والديني. بل حتى المرأة في التاريخ اليمني القريب نفسه مثل أروى الصليحي وهند بنت أبي الجيش ودونك بلقيس السبئية القديمة التوراتية القرآنية.
لقد أرادها الجعايبي صُنْوَةً للنموذج الأركاييكي الذي تمثّله ميديا في قسوتها وتصرفها الغضبي وبديلا ثقافيا آخر قد ينسِفُ أو يُجدّد حضور ذاك النموذج تحت أقنعة أخرى … الجعايبي في هذا المقام مُتسلحا بتكنيك التحقيق وجدال المساءلة والتي مكّنته من التخلص من ثقل ميديا/الأرخيتيب قدّم نموذجه الجديد للمرأة الإشكالية الطارئة والرافضة لكل شيء عبر شخصية “عاتقة” اليمنية لينفذ إلى مجادلة جوانب مظلمة وخفيّة أخرى لهذا النموذج الآسر ويجعله حصان طروادة ليقتحم ما تبقى من المسلمات في الوعي الجمعي راهنا. وكأننا بلسان حاله يقول لا تزال حصون أخرى “قروسطية” من الواجب هتك أسوارها.
ويبدو أن ميديا الأركاييكية والتي عمد الجعايبي إلي رسم خرائط رحلتها من خلال عمليات الإبدال والانتشار والتناص التي ذكرناها لم تكن إلا مجرد تعلة، بل تعلة ماكرة، لتصفية التركة الثقيلة والمعطلة لما تراكم من أوهام بعد خيبة الثورات العربية ولينفذ مباشرة في اتجاه المسائل الجوهرية التي لم تناقش بشكل جدي في غياب الفضاء العمومي التونسي.
وعليه فإن النظر في الميثولوجيات الحديثة بالمعنى الذي يذهب إليه رولان بارط في “ميثولوجيات” ويُكرّره جيروم غارسان Jérome Garcin في “ميثولوجيات جديدة ” (18) ضروري لكشف الأوهام المتراكمة التي تحجب رؤية الحقائق عارية ضمن سياقاتها. إن الانتباه إلى الميثولوجيات الحديثة هو جزء من الوعي النقدي التاريخي للراهن الاجتماعي والسياسي واستعداد لمواجهته وفهم تلوّناته.
ومن بين هذه أهم هذه الميثولوجيات التي يُواجهها الجعايبي في “آخر البحر” هو هذا النوع من الخطاب النسوي المزدهر في سياق هذه السنوات التي عقبت “الثورات” العربية، وخاصة على مستوى الخطاب النسوي الجاهز والمُنتعش في العمل الجمعياتي في تونس المدافع تحت عناوين وشعارات تحوم حول حقوق المرأة أو الدفاع عن الأقليات وما يوظفه هؤلاء الناشطون (طبعا بعضهم وليس جميعهم) للحصول على التمويل والتّمعش من المنظمات الدولية والمؤسسات الليبرالية الغربية لـــ”المجتمع المفتوح” وما يقف وراء هذه المنظمات والمؤسسات من أجندات جيو-سياسية. ومثل هذا الخطاب هو ما يمثله في المسرحية وبشكل بليغ خطاب شخصية المحامية “نادرة بالحاج” (سهام عقيل) والذي وجد في نموذج “عاتقة” غنيمة يمكن استثماره والمتاجرة به في سوق الإعلام والعمل الجمعياتي والحقوقي.
غير أن “عاتقة” هذه تحوّلت إلى صخرة صمّاء تتكسّرُ عليها كل سرديات المطالبة بالحق في تحرّر المرأة في الخطاب النسوي ومن خلالها يُعرّي الجعايبي بسخرية لاذعة حقيقة هذا الخطاب وزيفه ويكشف عن رهاناته الحقيقية من خلال رفض “عاتقة” الراديكالي لأي محاولة لإقحامها واقحام ما اقترفته تحت أي طائل أو إطار قانوني أو حقوقي. فـ “عاتقة” وضعت من خلال موقفها الرافض ذاك كل الخطابات النسوية والحقوقية في التسلل أو في سلة مهملاتها الغامضة. وإلى جانب تعرية هذا الخطاب النسوي الزائف القائم على الشّعارات وظّف الجعايبي أيضا هذه الشخصية لمواجهة مؤسّسة القضاء التونسي وتبيان أزماته من خلال اصطدام الخطاب القضائي أمام راديكالية “عاتقة”.
فخطاب شخصية القاضية المكلفة باستنطاق “عاتقة ” لا يخلو بدوره من منطق المضاربة حول القضايا التي يتناولها. ولا يخلو أيضا من الشّعارتية الفجّة الحائمة حول الثورة والعدالة والاستقلالية والنزوع الشّعبوي للدّفاع عن المبادئ والالتزام والوطنية. وهو أيضا ذات الخطاب الذي يكشف مدى تواطئ القاضية “زينب” في ارتباطاتها مع الطبقة السّياسية الجديدة الحاكمة ومحاولتها الصريحة شأنها كشأن المحامية في استغلال قضية عاتقة وعدم النظر إليها من زاوية “التّفهم” الموضوعي لامرأة ترفض بشكل جذري كل المنظومة القضائية المترجمة لتصور ذكوري سياسي وتوجيه مسار القضية برمّتها في اتجاه شبهة ارتباط “عاتقة” بشبكة الإرهاب الدولي. وأخطر ما تكشف عنه مسرحية “آخر البحر” في شخصية القاضية تلك العداوة النسوية المتأصلة للنسوية وهو ما نستشفه في شخصية القاضية نفسها حين نتكشّف على جانب من شخصيتها المعطوبة عاطفيا واجتماعيا ونلمس تعاملها الانتقامي مع “عاتقة” وكأنها تستكثر عليها أنوثتها وقوّتها واستقلاليتها.
ويُستتبعُ دكُّ حصون هذه المَدَنيّة الواهية من خلال تعرية المجتمع الحقوقي وزيفه خطابه الجندري والكشف عن كافكاوية مؤسسة القضاء والعدالة بتناول مؤسّسة “المُراقبة والمُعاقبة” من خلال تواطئ مؤسّسة الطب النفسي مع الرّهانات الخفيّة للقضاء وضعف تناوله لحالة “عاتقة” التي يحشرها في تشخيص مرضي جاهز. هذا الجهاز الطبي النفساني الذي ظل بشكل مؤسف أداة للعقاب والتواطئ مع منظومة كاملة للقمع والترويع المؤسساتي الذي توظفه الدولة العمياء لسحق أية فردانية أو اختلاف أو غيرية.
وفي المسرحية ندرك حجم التواطئ بين مؤسسة القضاء التحقيقية والتشريعية والسجنية وبين مؤسسة الصحة النفسية. فالطبيب النفسي “رشّاد المناعي” (حمادي البجاوي) يتذرع بكتابة تقريره الطبي لتشخيص حالة “عاتقة” وهو في الحقيقة ذراع من أذرعة هذه الآلة السلطوية، وفي الحقيقة نراه يستكمل ما بدأته القاضية من تحقيق واستجواب ولا يجد من تشخيص لحالتها إلا ما وجده جاهزا في أدبيات علم النفس التحليلي (la psychanalyse) والطب النفسي (la psychiatrie) في كون “عاتقة” تعاني من عقدة ميديا (Medea Complex) المنسوبة كفرضية نظرية لأدوارد شتارن Edward S.Stern (19). ولعلي بالجعايبي في هذا السّياق وهو يذكر بالعلاقة الخفيّة بـ “ميديا” يوريبيدس يسخر بشكل خفيّ من عجز الطب النفسي العجول عن فهم حالة “عاتقة” وبأن المنظار الفرويدي ليس بالضرورة منظارا قادرا على فهم حالة “عاتقة” التي كلما اقتربنا منها بعدت وتكثّفت. وبأن حذاء “عقدة ميديا” ضيّق على قدمي “عاتقة”.
أما آخر الحصون التي يتوجه إليها الجعايبي من خلال “عاتقة” فهو الحصن الجندري نفسه من خلال تعرية المسلمات بخصوص الهوية الجنسية. فلقد جعل الجعايبي من “عاتقة” أداة فعالة للكشف عن الفحولة والأنوثة المتخيلة الراسخة في الوثوقية الذهنية في مجتمعاتنا. ومن خلال “عاتقة” فحسب ننزل إلى قاع المسكوت عنه في مسألة تنشئة الفرد بين هوية الذكورة والأنوثة في مثال المجتمعات التقليدية المغلقة حين تسرد علينا “عاتقة” سيرة شقيقها خالد “المخنوث” وطبيعة الجحيم الذي كان يعيش فيه في الوسط العائلي المحكوم بالفحولة السلطوية للأب العتيق المهيمن على كل شيء، وكيف أن الأنوثة هي التي تتولى استيعاب هذا الاختلاف إلى درجة الاقتراب من علاقة سفاح المحارم (Inceste) أو ما يسميه بوريس سيرلنيك Boris Cyrulnik بــ “عطر السفاح ” (Parfum d’inceste) (20) بين الأخت والشقيق تكون الملجأ الفردوسي الوحيد لهذا الاختلاف في الهوية الجنسية.
وإلى جانب ذلك تكون “عاتقة” أيضا أداة ناجعة للكشف عن الجحيم الذي يعيشه المِثليُّون في تونس من خلال استنطاقها للطبيب النفسي ومعاناته من قوانين رسمية مكبلة بهذا “النوع” من الذوات وفي ظل مجتمع يرفض كل اختلاف بما في ذلك عائلته القريبة من خلال اعترافاته التي يسردها على “عاتقة” بعد أن حشرته في زاوية أسئلة التفريق بين الذكورة والأنوثة. فهل في خطاب الجعايبي ما يدل على إمكانية إقامة مرافعة للدفاع عن الاختلاف في الهوية الجنسية؟ لما لا؟ فليكن الأمر كذلك.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
(18)- Voir l’essai de Jérôme Garcin, Nouvelles Mythologie, Le Seuil, Paris 2007.
(19) – Alain Depaulis, Le complexe de Médée, Quand une mère prive le père de ses enfants, Edition de Boeck Université, Bruxelles 2008.p,73.
(20) – Boris Cyrulnik, Les nourritures affectives Edition Odile Jacob, Paris, 1993, p, 178.