بقلم ّ: عبد الحليم المسعودي
“المكان الذي لا يُؤنث لا يُعَوّلُ عليه”
تدور مسرحية “آخر البحر” حول معنى أساسي هو معنى “العتق”، ومنه إسم الميثولوجيا الجديدة “عاتقة ” التي اجترحها الجعايبي. وكان بإمكان أن تكون المسرحية عنوانها “عاتقة” إمعانا في التأكيد على ميلاد هذه الميثولوجيا الجديدة التي أشرنا إليها والحائمة حول مفهوم “العتق” وهو كلمة مصدر كثيفة الدلالة في ثقافتنا العربية الإسلامية، وسُمّيت النساءُ الحرائرُ بالعواتق أو العواتك حتى أنّ جَدّاتِ الرسول سُمّين بالعَواتْك (27). و”عتق” من أَجًلّ وأشرف الأفعال التي يمكن أن تتمثلها الميتافيزيقيا الإيمانية حين “يعتق” الله الرّقاب من النار، وأجل الأفعال دنيويا حين برتبط معناها بالحريّة والتحرير. و”عاتقة” من معانيها حسب اللسان المرأة البكر التي لم يمسسها أحد دلالة عن المنعة والبكارة.
ولا أظن هنا الحرية إلا دلالة على البكارة الأولية أو الأصلية المرافقة للوجود الإنساني. وأظن أن معنى عاتقة كما أشرنا هي المرأة التي تقوم بتحرير الرّقاب أي اخراج الذات من العبودية وإلى الحرية وفي هذا المعنى ما فيه من أليغورية يمكن أن ترمز إلى الحرية، قيل أيضا حسب اللسان المرأة المضمخة بالعطر والطيب فهل جاء حديث “عاتقة” الجعايبي عن أوراق الغار كمادة للعطر اعتباطا؟ وإذا كان إسم عاتقة مثقل بمعنى التحرير والحرية فمن أي شيء سوف تحرّرنا هذه العاتقة وعن أي نوع من الحرية تعنيه هذه الدلالة؟
لا شك أن التحرير والحرية في تماس عضوي مع السياسي مطلقا. وفي تماس مع ما ترشح به المسرحية من إحالات على السياسي (Le Politique). لكن هذا السياسي لا يمكن النظر إليه إلا من خلال علاقته الإشتباكية مع التراجيدي (Le tragique). أن تناول مفهوم الحرية والتحرر في هذا السياق من شأنه أن يوضح لنا مفهوم هذا التراجيدي الذي منع الجعايبي من مسايرة التراجيديا اليوريبيدية في اتجاه فهم جديد يحقّق راهنية هذه السّردية (سردية ميديا) في الواقع التونسي والعربي. و عليه فنحن نتوسّل بمفهوم التراجيدي كما يراه المنظر بيتر زوندي Peter Szondi عند الفيلسوف شيلينغ Schelling حين يعتبر التراجيدي وعيا جدليا يدور حول “القبول بحرية العقاب من أجل جريمة لا يمكن تلافيها من أجل التعبير عن الحرية الذاتية من خلال فقدان هذه الحرية نفسها ” (28) .
ونعتقد أن هذا الفعل “الشنيع” الذي اقترفته “عاتقة” ليس فقط مرده إلى حاجتها للانتقام ممن خان “القسم” كما في التراجيديا بقدر ما هو اشتباك وتصفية حساب راديكالي مع السياسي وهو يتوغل إلى أقاصي الفعل العدمي (Acte nihiliste).فالمتأمل في نهاية “عاتقة” في آخر المسرحية بعد أن ترفض كل شيء وكل معونة و كل شفقة بما في ذلك إمكانية حصولها على شهادة عدم مسؤوليتها في ارتكاب ما اقترفته من خلال تقرير الطبيب النفسي وتختار في الأخير التوجه إلى البحر لتختفي في أمواهه يمكن قراءة هذا الفعل كإرادة العود إلى الأصول في التحامها بالماء باعتباره العنصر الأولي الذي يحن إليه الإنسان بوصفه مياه رحمية. كما يمكن أن يقرأ تأويلا على أساس أن طبيعة “عاتقة” طبيعة مُثلى من ناحية الإنماء الجنسي، فهي ليست بالأنثى و لا بالذكر وإنما هي مزيج عنصري من هذا و ذاك أي أنها نوع من “الخنثى” الكائن الأفلاطوني الأول في حُجُب عالم المُثل، أو هي “الخنثى ” الأندروجين (l’androgyne) التي ليست في حاجة إلى التزاوج، وهو ما يفسر صرختها المدوية في المسرحية ودعوتها لقطع الأرحام والنسل، ولدينا في المأثور الميثولوجي أن المكان الطبيعي للخنثى أو الهرامفروديت (l’hermaphrodite) هو الماء، حتى أن الفيلسوف الطبيعي الروماني بلين العجوز Pline l’Ancien يقول إذا ولدت الخنثى فارموها في البحر، لكن هذا الأمر يستقيم منطقيا عند “عاتقة” خاصة و أنها حرّرت شقيقها “المخنوث” بقتله وبتقطيعه ورميه إلى رحم ماء البحر وعملية التقطيع عملية أركاييكية موغلة في القساوة الطقسية عند الإغريق وتعرف بــــ “السباراغموس” (sparagmos) وهي ذات أصول برابرية في الطقس الديونيزي (29). ويمكن اعتبار توجه “عاتقة” للتوغل في مياه البحر تذكيرا بهذا، كما أنه يعد انتحارا بمحض الإرادة باعتباره رفضا راديكاليا.
لكن هذا الرفض الراديكالي الذي يتجاوز مفهوم الشطط، والذي تُشغّله “عاتقة” والذي يبدو رفضا أصوليا أو بدئيا (Originel) ليس في الحقيقة إلا رفضا للبوليس (Polis)كنظام من القوانين والأحكام والأعراف التي لا يمكن أن تكون إلا بطرياركية ابتكرت البوليس مفهوما ونظاما، سواء كانت هذه البوليس صنعاء أو تونس.
ولأن دين عاتقة هو “الحريّة”، هذا الشرط الوجودي الذي ينقلب جدليا إلى التراجيدي حين يكون مجلبة للكارثة التي لا مرد لها، ذلك أن رحلة “عاتقة” الحقيقية ليست إلا اختبارا لهذا المطلب العضوي والحيوي، وقد خبرت فشلها الذريع في البحث عن هذه الحرية هروبا من الموطن العتيق (اليمن السّعيد) إلى الملجأ الجديد (تونس) التي لم تكن فيها الحرية إلا وهما وسرابا خُلّبٌا. وهو إحباط مرير ا تعبّر عنه المحامية “بشرى بالحاج” في جمل بليغة حين تقول عن “عاتقة”: “كانتْ تحلم بتونس/تحلم ببورقيبة/نزع الحجاب والسفساري/ ومجلة الأحوال الشّخصية/ومنع تعدّد الزّوجات/”أفطروا لتقووا على أعدائكم”/والطاهر الحداد /وتوحيدة بالشيخ/ورجاء بن عمار/وأحلام بالحاج/ومية الجريبي/ ولينا بن مهني/ تونس الديموقراطية/ والحريات الفردية/ للدستور الكوني/ …/ طالبة اللجوء / هاربة من جحيم حرب/ ما حبتش توفى/تلقى روحها في حرب أخرى “ (30).
ولعله وفقا لباراديقم التراجيدي والسياسي ومن خلال هذا الإحباط حول سرابية الحرية هذه وزبفها يؤبن الجعايبي من خلال خطاب “عاتقة” ومن خلال خطاب المحامية “بشرى بالحاج” فشل المشروع التحديثي التونسي وفشل تحقيق أهداف الثورة في تونس وبل أهداف “ثورات الربيع العربي” كلها) التي لا تنتج إلا مزيدا من الخراب المؤسساتي والبؤس الاجتماعي والفساد السّياسي والزيف الفكري.
وبناء على هذا التأبين لفشل المشروع التحديثي التونسي المسكون بالارتداد إلى غيلان الماضي السّحيق، فإن المرأة ضمن هذه المجتمعات التي عاشت هذه الثورات هي الضحية الوحيدة والأخيرة التي تدفع ثمن هذه الخسارة الفادحة، وعليه فإن هذا التأبين وهو أحد تجليات هذا التراجيدي لا يكون مرفوقا إلا بإقامة الحداد على هذا الفشل الذريع، والمرأة وحدها هي التي سوف تتولى إقامة هذا الحداد، وأظن أن نساء “آخر البحر”، “عاتقة” و”بشرى بالحاج” ، و”زينب” فهن مهما كانت اختلافاتهن من أقمن هذا الحداد، والحداد هو الشيء الذي لا ينسى ويظل موشوما في الذاكرة، وذاكرة الأنثى لا تمّحي لأنها هي اللغة. وفي ذلك ما يتوافق مع تذهب إليه حنا أرندت Hanna Arendt حين تعتبر أن حداد النساء بعد فشل الثورات ( و هي تتحدث الثورة المجرية) هو الفعل الثوري الوحيد من زاوية نظر سياسية لأن الحداد يعبر بشكل مثالي عن جوهر التراجيدي و عن جلال الثورة (la sublimité de la révolution) ، فمن يستطيع أن ينسى ذلك ؟ ” (31) .
يقول محي الدين ابن عربي: “المكان الذي لا يُؤنث لا يُعَوّلُ عليه“. وعليه فإن التراجيدي الحقيقي يبدأ فعليا حين تغادر “عاتقة” المكان في اتجاه المجهول البحري. والمكان المقفر بلا أنثى هو التراجيدي ذاته، وهو مكان بلا لغة، إنه الخراب عينه.
(يتبع)
الهوامش والإحالات
(27) – أنظر مادة “عتك ” في لسان العرب لأبن منظور , الجزء السادس باب العين ، ص 77, مرجع مذكور .
(28) – Peter Szondi, Essai sur le tragique, coll/ Penser le théâtre, Circé, Paris 2003, p, 17.
(29) – عبد الحليم المسعودي، الأغورا والأوركسترا، التراجيديا الإغريقية وشواغلها السياسية، دار الجنوب، تونس 2023 ص 52.
(30) – الفاضل الجعايبي، نص آخر البحر ” .
(31) – Katerina KarounIa, Le rôle du tragique dans le rapport entre l’art et la politique : Hannah Arendt contre Carl Schmitt ,(in) Philonsorbonne, 13 | 2019, 39-56.