بقلم : حاتم التليلي محمودي/ كاتب وناقد مسرحي
***
صَمْتْ…
قد ننسى الشخصيات، ننسى السرد، ننسى الحدث، ننسى كلّ شيء. أيّ مقام ترتّب فيه الكتابة كينونتها إذن؟ إنّه مقام الهلاك، أن تنتصر على سلطة تجنيسها، أن تتسامى عن التصنيف، أن تتحوّل إلى حمم شعرية بكثير من أوصال المفردات والتركيبات: تركيب نصّ على نصّ آخر.
في مقام هذا الهلاك، سوف يتمّ انتهاك التجنيس كما يلي: ثمّة نص موازي(paratexte) يتحدث عن انفجار بيروت، في شكل تصريحات شارحة أدلى بها كلّ من الخبيرين راسل أوغل والعميد إلياس فرحات، تمت زراعتها صوتيا أثناء اشتغال العرض وبصريا من حيث رسمها كتابيا في وسط الركح وأعلاه. في الآن نفسه وجد النص المصدر(hypotexte) على لسان المؤدية حلا عمران، وهو نص متوتّر، شاهق من جهة إفراطه في الشعرية وملوّث من جهة المحاكاة الساخرة لضروب شتّى من أشكال الكلام ومضامينه الإيديولوجية.
في ضوء حركة التناص هذه، تصبح الكتابة مرتبكة في فزعها، غير أيقونية من خلال تعدّد الأصوات في مكامنها، انقلابات فجائية بين نص ونص آخر، تمزيقية من حيث تقطيعها أوصال المؤلف وأسطورة الأصل، رؤيوية من جهة أسئلتها، نقدية بوصفها خصومة بين النصوص.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
كتابة انفجارية، تتأمّل ذاتها، تصنع مراياها الخاصة. حمم نارية متطايرة من الشذرات المتقطعة إذا ما سقطت توحّدت في نهرها الواحد هو نصّ العرض بوصفه النصية الجامعة، “النصية الجامعة” بعبارة جرّاح النقد جيرار جينات(Gérard Genette).
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
ليس ثمّة تمثيل في هذا العرض. نعم، وهل يحتاج نصّا بلا حبكة، بلا شخصيات، بلا سرد، إلى تمثيل؟ إلى لعب الدور؟ كلّا. ثمّة لعب فحسب، أداء قرباني للمؤدية حلا عمران، طاقة هائجة تفيض عن الحاجة إلى التمثيل، محاكاة عابثة للكتابة بوصفها قربانا للشكل الكتابي السائد، رقصة هلاك دنيوي في المقام الموسيقي المصاحب بوصفه موكبا ديونيزيا.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
كيف تمّ ترحيل الكتابة إلى الجسد الفرجوي؟ جسد المؤدية بوصفها لحما ناطقا، خارطة من الكلمات المرتجفة أو الصارخة مغمّسة في أضلاع النوتات الموسيقية، شجرة في مهبّ الإعصار من القول والتعليق عليه بشكل متهكم وعنيف وساخر لا يلجمه الاحترام.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
ويبدأ العواء. هل يمكن نطق الكلمات والعبارات بشكل عوّاء؟ نعم، ثمّة تقطيع للكلمات، تدمير للبديهي من مخارج الحروف، تصويت على شفا الغرابة، تسريع القول وإبطاءه، قذف للعبارات على نحو فقدت فيه مدلولاتها الرسمية، انزياح معنى الكلام بعد انقلاب المدلول على دواله، بتر الجملة المسرحية من جهة عدم إكمالها، تفريغ اللغة من ثرثرتها، صرخات زاعقة تحت وقع الزلزلة فخلخلة تصيب الجسد في مقام الارتجاف.
مشهد برمته تحت عنوان (الدافع) في عرض (صَمْتْ)، تمّت خياطة جمله المسرحية بحرف واحد هو حرف (الراء). مرّة يأتي على نحو الصفير في مقام السخرية، مرّة يأتي على نحو الزغاريد في مقام الاحتفال بالفاجعة نكاية في حدثها، مرة يأتي على نحو الفحيح في مقام الشرّ والانتقام. هذا الحرف هو آخر الحروف وأوّلها من آخر كلمة وجدت بين جملة الجمل المسرحية. كان مقام وجوده في لفظة (ريختر).
كيف ينطق حرف الراء إذا كان الجسد الناطق للمؤدية تحت وقع الارتجاف إذا ما تكلمت تحته الكارثة باسم (ريختر)؟ في مقام هذا الاقتصاد اللغوي، في مقام العويل مع هذا الحرف، كانت اليد اليمنى للمؤدية حلا عمران تكرّر نفس الحركة، من وضعها على الشفاه إلى امتدادها يمينا، ومن انفتاحها كليّا إلى رجوعها في شكل لطمات على الصدر: علامة جذرية على تشغيل فرجة العزاء الكربلائية أين تتضخّم زفرة الضمير باسم تكرار الفاجعة.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
وتبدأ الباروديا الساخرة. هل يمكن تحطيم القول من الفنّ الملتزم؟ زجّ الجمهور بتصييره عدما في الأغنيات التي مثّلت المقاومة؟ لماذا تحوّلت التعبيرات الملتزمة إلى مجرّد بضاعة للتسويق؟ عذرا، صار يكفي الآن، صار يكفي انتهاكا للقضية باسم الفنّ. أحيانا، يسيء الفنّ إلى القضية التي يريد الاشتغال عليها.
أن يشتعل الجمهور مع أغنية مارسال خليفة، أن ينخرط في أدائها مع المؤدية حلا عمران، أن ترتدّ هذه المؤدية إلى السخرية فهذا تحطيم لمسلماته، تدمير للساكن فيه، خلخلة لمفاهيمه، رجّة عنيفة تحطّم أقنعة المقاومة بوصفها ضدّا للمقاومة، كشفا لوجهها الجهنمي البشع.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
شهيق، زفير، أنين، اختناق: هلاك أدائيّ للمؤدية على الركح، صيغة عليا عن هلاك الحيوان على المذبح، استرداد مريع لما كان يحدث في طقوس الديثرامب القديم.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
إزاحة الوهم، وهم التمثيل وأوهام المسرح وأضاليله. في مقام مخاطبة الصامتة بوصفها (هي/نحن/المسرحيين) يفيض ذلك السؤال المريع حول مفهومنا للمسرح. (نقاد محترمون/غربيون): يا للسخرية. (نصوص شكسبير سيئة الترجمة): يا لوطأة الضحك. (فنّ يشبه العطلة بدلا عن تفجير الشواطئ): يا للأمنية. فنّ معلّب كعلب السردين بغاية تصديره للأمراء: يا لوطأة العزاء.
لقد سقط المسرح بوصفه الحامض النوّوي للإله السكران ديونيزوس في قبضة الإله التوحيدي، وهذا عنوان كارثة أخرى، كارثة تشبه كوارثنا التراجيدية من جهة سقوطنا في خراب الحروب والأوبئة والذلّ.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
خياطة الأشلاء، أشلاء المدن وأشلاء المسرح، ترتيب أشلاء المجزرة.
أمراء أم حرّاس لثقافة الاستهلاك، مدن بكلاب مسعورة وأخرى لتخصيب الجنس، مدن بلا إنسان، “مدن الملح”.
فأرنة البشر، حيونة الإنسان، الاستسلام للموت، فقدان الماهية والتشتت المريع، فظاعة الوجود وكيف لمن لا وطن له أن يتكلّم باسم وطن لم يعد له؟ لا شيء ولا شيء ولا شيء أمام احتفال السياسي الذي سقطت مصادحه في أوّل العرض بثقافة الهزيمة: (عربي بلا فلسطينيين).
الكارثة هي أن لا تكون شيئا.
يبدأ اللعب الآن.
***
صَمْتْ…
وصل عقرب الساعة إلى توقيت الانفجار، غابت المؤدية بعد أن ازدحم عليها الدخان، انتهى العرض بوصفه علامة جذرية للكشف عن انحطاط المسرح الملتزم فينا من جهة تشغيل فاجعة بيروت. بعد الكارثة يجب أن يأتي الصمت، لكن بدأ التصفيق، تصفيق الجمهور: هل نحن في حاجة إلى تربية الجمهور مجددا حتى يتعلم فن الإنصات؟ هل يريد العرض أن يقول: لا بد من تدريب الجمهور على عدم التصفيق وبدلا من ذلك تشريكه صناعة الفرجة؟
ماذا لو أن انتقلنا من الرائع الاستطيقي إلى الرائع العملي/ الأنطولوجي: أن يصبح الفنّ في يد الجموع الغاضبة؟ أن يتحرّر من لوثة الكلام؟ أن يكفّ عن مشاهدة المسرح لأنّه هو المسرح، أن يعود مع هذا الفنّ إلى حمضه النوّوي، إلى غليان الفرجة في الأماكن العامّة، إلى جذبة التدمير السياسي؟
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ…
ماذا لو عادت مواكب ديونيزوس إلى حقلها الأناركي؟ ماذا لو حرّرنا الحياة من وجهها العدمي الحداثي؟ متى نكفّ عن تجميل الفظيع؟ متى نحرّر طاقتنا البركانية الهائجة من لوثة ترويضها باسم العقلانية الزائفة، من لوثة العقل: هذا الصنم الجديد؟
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ…
اجتياح المؤدية للركح، صهيلها بالتوازي مع صهيل الموسيقى: انتماء بركانيّ لطاقة المسرح الأولى قبل أن تتمّ عقلنته، قبل أن تتمّ علمنته، قبل أن يتحوّل إلى مجرّد ضجيج عن “الحالة الاجتماعية الظالمة” كما لو أنّه ميثاق عالمي عن حقوق الجياع أو بيان سياسي لجبهة خاسرة في الحرب.
لم ينته اللعب بعد.
***
صَمْتْ…
كولاج سوريالي: أليس تهكما متطرّفا ذلك التقطيع الذي تمّت ممارسته على كافّة الأشكال المسرحية ومن ثمّة إعادة خياطتها على نحو فرجوي جديد؟ أليست هذه الأمواج الفرجوية من غناء ورقص وفحيح وقول وصراخ هي جسد مسرحي لا-نظامي؟
ما معنى أن نكون لا نظاميين من جهة صناعة الفرجة المسرحية؟ فقدان الثقة نهائيا في شكلها السائد، تقويض راديكالي لطمأنينة ضجيجها، إعادتها إلى الصمت لأنّها لم تخلّف سوى الغثيان الجمالي.
لم ينته اللعب بعد.
***
كأسك يا سليمان البسام…
من الآن فصاعدا، يجب أن نقرّ بأن المسرح سيكون مستقبله شريدا مثل إلهه ديونيزوس. فهذه الحضارة التي موّلتها بنوك أبولون، الإله النظامي، حضارة فاسدة، طاغية، مومس سقطت في مهنة الغريزة الحيوانية، جشعة بشكل لم يعد ممكنا تخيّلها أصلا، حضارة من الفزع الرهيب الذي يخرس اللغة. لهذا يجب أن تفتح أبواب الصمت باسم ديونيزوس: بدلا من اللغة كشكل نظامي سوف يأتي العواء، سوف تولد الموسيقى من الصرخات المرتعبة في حنجرة الهلاك أمام هول الحدث، سوف تصمت تلك المفاهيم التراثية مثل القصة والحبكة والحدث والشخصيات والسرد، سوف ينعطف المسرح إلى اللامسرح عائدا بقوّته الفرجوية إلى جذوره الأولى مربكا طاقة تاريخه. سوف تعود النادبات الهمجيات إلى المناحات: استرداد كابوسيّ للأشكال المسرحية المناهضة لبشاعة مسرح اليوم وهمجيته من جهة سقوطه في مهنة المدان لبنوك أبولون الآثمة، انتهاك للسائد من الضجيج السياسي والديمقراطي الذي أصاب المسرح ومن ثمّ تمزيق لعفونة جسده الشعاراتي، عودة الارتباك إلى تلك الطاقة المسرحية بوصفها الحمض النووي للمسرح باسم الإله الشريد.
فليبدأ اللعب الآن، وبشكل حرّ، راديكالي وصادم..
______________
ملاحظة: العبارات الواردة بين ظفرين تمّ اقتباسها من مراجع مختلفة.