الموسيقار د. محمد الڤَرفي
قال أحد المحللين العرب عن المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة: “لو أن العرب تعاملوا مع القضية الفلسطينية بجدّية منذ البداية لما وصلت المأساة إلى هذا الحد”.
وقد ثبت بما لا يدعو إلى الشك أن الأنظمة الرسمية المطبّعة أو المتواطئة والعميلة في الخفاء تُسقى “ماءَ الحياة بذُلّة” على قول المتنبي “وأخو الجهالة في الشقاوة يَنعمُ”، وهو يلخّص ما وصل إليه حال العرب والعالم المماثل من إهانة لأهل الفكر والقِيَم مقابل انتصارهم للجهل والنذالة.
إن ما يقع اليوم على الساحة الدولية وفي محافلها الرسمية هو ما نسمّيه في كرة القدم “التقاذف” passe à l’autre أي تبادل الكرة بين لاعبي الفريق والمراوغة المملة لإجهاد الخصم عسى أن يكلّ فيرمي المنديل ويسلّم بالهزيمة وهو منتصر على أرض المعركة.
فالقرارات الأممية غير المُلزمة لإسرائيل على عكس أصلها الإلزامي والتي تمتنع فيها الولايات المتحدة -تمويها- عن التصويت هي مسرحية تافهة غبيّة ومفضوحةٌ خواتيمُها، غايتها إتاحة المزيد من الوقت للصهاينة لمواصلة إبادة الفلسطينيين والتنكيل بهم.
والشيء من مأتاه لا يُستغرب: وجهان لعملة واحدة يتصرفان بنفس المعايير العنصرية وبذات الغطرسة والتعالي على شعوب العالم وكأنهم خلفاء الله في الأرض.
2003: الجيش الأمريكي ينكّل بأسرى الحرب العراقيين
2023: الصهاينة ينكّلون بالمدنيين العزّل قبل إعدامهم
فالسجل الأمريكي مُثقل بجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للسكان الأصليين في كل مكان والاستيلاء على أرضهم ونهب مواردها منذ أن وطأت أقدام المغامر كريستوف كولومبس ورفاقه البحارة جزيرة quisqueya في البحر الكاريبي عام 1492.
ومثلما تعلل اليهود بأن فلسطين أرض بدون شعب وأن سكانها لا يؤلّفون شعبا متجانسا (أنظر الحلقة السابقة)، ادعى الأوروبيون قبلهم أن القارة الجديدة أرض بلا شعب وأن سكانها قبائل متوحّشة وأكلة لحم البشر حتى أن الغزاة الأسبان أطلقوا عليهم الكلمة المناسبة caraibe، لذلك استوجب تنصيرهم وترويضهم لخدمة البيض أو القضاء عليهم.
كانت الجزيرة كما وصفها كولومبس نفسه “جنة على الأرض”.
ويذكر علماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار أن سكان المنطقة الأصليين كانوا من الهنود الحمر ويُسمّون “كاليناڤوس” kalinagos وتعني الرجال الأشدّاء، وجاء في وصفهم أنهم “رجال ونساء عراة بشعر طويل وأجساد مطلية بأصباغ حمراء ويحملون الأقواس والرماح”.
ويقدر المؤرخون أن عددهم كان يبلغ حينها مليون نسمة ولم يبق منهم سوى القليل.
فقد اصطدموا منذ البداية بأطماع التاج الاسباني التي تهدف إلى انتزاع أراضيهم وإخضاعهم لمصالحه لا سيما عن طريق فرض ضرائب باهظة وتشغيلهم بالعنف وفي ظروف غير إنسانية.
لحظة وصول كولومبس للرسام الاسباني Dioscoro Puebla
أما المستعمرات الأمريكية الثلاثة عشر التي استقلت عن التاج البريطاني عام 1776 فقد ارتفع عدد سكانها من حوالي 2000 مستوطن عام 1625 إلى 2,4 مليون في عام 1775 وأُجبر الأمريكيون الأصليون على الخروج من شرق أمريكا الشمالية والتوجه غربا، وهو ما تحاول إسرائيل أن تفعله اليوم مع الفلسطينيين.
وبتشكيل الولايات المتحدة الأمريكية بدأ المستوطنون بالتحرك غربًا واشتبكوا مع قبائل الهنود الحمر وأبادوهم.
ويقول المؤرخون إن تدمير الهنود الأمريكيين الذي استمر على مدى ثلاثة قرون وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ” كان أكبر عمل إبادة جماعية في تاريخ البشرية”.
وأدى التوسع الأبيض نحو الغرب إلى التدهور الديموغرافي والثقافي للأمم الأمريكية الأصلية وهو ما وصفوه بأنه “تطهير عرقي”.
فمن 18 مليون نسمة قبل القرن السابع عشر لم يبق منهم في الولايات المتحدة اليوم سوى حوالي 2,5 مليون نسمة أي 13% من السكان الأصليين.
ومثلما يعتقد اليهود أنهم شعب الله المختار وأن الأقوام الأخرى حيوانات متوحشة ولا تستحق الحياة يعتقد الأمريكيون قطعا أن الله اختارهم لامتلاك القارة بأكملها وكذلك الأرض كلها ونشر الحضارة فيها.
وفي هذا السياق يحتفلون في شهر نوفمبر بعيد الشكر Thanksgiving الذي يعود تاريخه إلى عشرينات القرن السابع عشر.
ويبدو بحسب بعض المؤرخين أنه مرتبط بمذبحة تعرض لها الهنود الحمر على يد المستوطنين الأوروبيين الذين دعوهم إلى وليمة لتقديم الشكر على مساعدتهم فذبحوهم وشكروا الله أن سمح لهم “بالقضاء على المتوحشين”.
(يتبع)