الموسيقار د. محمد الڤَرفي
يوسف سعد خاشادوريان (1927-1997) الشهير “خاشو” هو أحد روّاد الموسيقى البوليفونية في فلسطين رغم أنهم ينسبونه للأردن وهو من الجيل الذي تلا الرائد سلفاتور عرنيطة (1914-1984).
وُلد بالقدس في أسرة مسيحية عادية وتعلّم في مدرسة “تيراسنطة” Terra Santa (وتعني حُرّاس الأرض المقدّسة) التابعة للرهبنة الفرنسيسكان حيث تتلمذ على أب الموسيقى السيمفونية في فلسطين أوغسطين لاما.
توفي أبوه وهو في سن الخامسة فرُبِّيَ في ملجأ للأيتام عُرِف بِدير الفرنسيسكان يقع عند بوَّابة القُدس القديمة، وهناك كانت مسيرته التعليمية التي بدأت منذ سنّ السابعة مع الأستاذ لاما درس فيها البيانو والأرغن وأصول الموسيقى إضافة إلى اللغات والرياضيات.
وفي لقاء تلفزيوني يروي خاشو أنه كان منذ طفولته بارعا حتى أنه عوّض أستاذه في العزف على الأرغن وقيادة الجوقة في إحدى الاحتفالات الدينيَّة بكنيسة القيامة وهو في سن الحادية عشرة وذلك حين تعذّر على الأستاذ أن يصل إليها.
وسُمح له بعد ذلك بمُرافقة الكورال (جوقة المنشدين) في كنيسة القيامة بالعزف على آلة الأرغن ثم أصبح مساعدا لأستاذه كعازف أرغن.
لم يكن في زمنه معاهد للموسيقى بالقدس التي كانت تحت الانتداب البريطاني سوى ما توفّره الكنسية.
ويدين المؤلف لأستاذه أوغسطين لاما (لعْمى حسب قوله) أنه لقّنه بسخاء تقنيات الموسيقى في التأليف والكتابة ودرّيه على قيادة الأوركسترا والكورال حتى اكتمل تكوينه الأساسي.
وفي عام 1948 عُيِّن مُعلما بمدرسة “تيراسنطة” التي درس بها وتخرّج منها.
في الخمسيناتِ، وبعد مُرور بضع سنوات على نكبة 1948 ذهب خاشو إلى الأردن وبعد ذلك إلى سورية وهُناك التقى العديد من المُفكرين والكتّاب، واستقر لفترة من الوقت في بيروت.
في الستينات، سافر خاشو إلى إيطاليا لاستكمال دراسة الموسيقى الكلاسيكية وعاد إلى فلسطين (الضفة الغربية) ثم الأردن وسورية وبالأخص حلب حيث أسس أول أوركسترا هناك ثم عاد إلى إيطاليا ليواصل تأليف الموسيقى وأنتج سيمفونية القدس “التي عانى لأجلها الكثير من الضغوط السياسية”.
وقد استطاع بعد جُهد أن يقود أوركسترا روما الفيلهارموني في تسجيلها رغم اعتراض مجموعات الضغط الصهيونية، “وقد بلغت الاحتجاجات أن منزله هوجم وأُحرق ثلاث مرات بسبب التزامه الوطني وإخراج هذا العمل إلى حيّز الوجود”.
تنتمي موسيقى خاشو إلى ما يسمى المدرسة القوميَّة التي ظهرت بأوروبا في أواخر العصر الرومانسي والمتضمنة لعناصر من التراث المحلي. وقد تبلورت خاصة عبر “موسيقى البرنامج” musique à programme التي تعني أي موسيقى ذات طبيعة سردية أو مثيرة للذكريات أو وصفية أو ارتبطت بالدراما وتروي قصة سردية على عكس “الموسيقى الخالصة” musique pure التي لا تروق إلا للإدراك “المجرد”، دون الإشارة إلى أي عنصر خارج الموسيقى.
وتشمل موسيقى البرنامج الأنواع “التطبيقية” مثل موسيقى الباليه والمسرح والأنواع “النصية” كالأغنية والأوبرا والمغناة بالإضافة إلى القصيد السيمفوني الآلي والافتتاحية وكل موسيقى تشكل “صورة” للمستمع من خلال عناوينها أو إيحاءاتها.
كتب خاشو قرابة الأربعة عشر عملا جلها في قالب السيمفونية التصويرية وبعضها في قالب حر منها “القدس” عام 1967 و”الحسين بن طلال” عام 1972 و”الحسين بن علي” عام 1975 و”آه فلسطين” عام 1976 و”الهاشميون” عام 1993 و”أردن الحسين” عام 1986 واستخدم في تأليفها المقامات العربيَّة وعمل على تطويع تقنيات الهارموني الغربية لخدمة الألحان العربيَّة الشَّعبيَّة ووظَّفها ضمن العمل السِّيمفوني.
ومن أبرز أعماله في تأليف الموسيقى التصويرية: مسرحية “الطريق الخضراء” والمسرحية الغنائية “مدينة السوسنة” و”جرش، أطلال وظلال” وهي موسيقى وصفية لمدينة جرش، علاوة على تأليفه موسيقى مجموعة من أغاني الأطفال.
وتُعتبر سيمفونيَّة “القُدس” واحدة من أهم مؤلفاته دراميَّاً وذلك بتصوير هذه المدينة المُقدسة موسيقيّا “من خلال أساليب فنية متنوعة كتصوير الكنائس عير استخدام أصوات الأجراس وتصوير المسجد الأقصى من خلال صوت الآذان وموسيقى ذات طابع ديني إسلامي والتَّعبير عن عُروبة القُدس من خلال التأكيد على الألحان الشَّعبيَّة الفلسطينيَّة التي توارثتها الأجيال منذ القِدم”.
وعن سيمفونية القدس التي تتألف من أربع حركات كتب جامعي فلسطيني أنها “تُحيي قصة اللاجئين الفلسطينيين الذين ينظرون عبر نهر الأُردن نحو أراضيهم الأم، يتذكرون أحداث السنوات العشرين الأخيرة والبُيوت التي خلٌفوها وراءهم، وهي نفس مشاعر فلسطينيين لاجئين حَزانى آخرينِ قبل حوالي 2500 عام، والذي منه يمكن أن ندرك الألم في مزمور 136 (بأنهار بابل، هُناك جَلسنَا وبَكيْنَا، على أشجار الحُور التي نَمتْ علَّقنا قيثاراتُنا، إذا نَسيتُك، يا قُدس، دَعِي يَدي اليُمنى تَذْبلُ، دَعي لِساني يَلصُق بفمي، إذا لم أَتذكّرك أو أبجّلك، “آه يا قُدس، قبل كلِّ بهجتي”.
يُنسب ليوسف خاشو الذي استقرّ في الأردن تأسيس الأكاديمية الموسيقية بمعية الأسقف رؤوف النجار وإنشاء المعهد الموسيقي الأردني التابع لوزارة الثقافة، كما أسس أول اوركسترا سيمفوني أردني وألف العديد من الكتب المتخصصة في النظريات الموسيقية.
وبالرغم من إنتاجه الهام والغزير يبدو أن كثيرا من مدوّناته الموسيقية لا تزال مفقودة وأن الساهرين على التراث الفلسطيني يسعون لجمعها أو إعادة تدوينها من خلال التسجيلات الصوتية.
(يتبع)