في عام 1919 كان محمد إيڤَربوشن (ويعني باللغة البربرية مرج ابن آوى) البالغ من العمر 12 عامًا يتعلم أصول الموسيقى والعزف على البيانو في المدرسة الانكليزية إضافة إلى شبّابة القصب التي كان دائم العزف عليها أمام منزله بجوار محل الثري Fraser Roth. انبهر الرجل بالذاكرة الموسيقية الاستثنائية لهذا الطفل وقدرته على إعادة الألحان التي يسمعها مرة أو مرتين فقط فاقترح على والديه أن يتبنّاه وأن يأخذه ليُكمل دراسته في إنكلترا.
في البداية، لم تقبل العائلة هذا العرض لاشتهار الرجل بالمثلية لكنها وافقت حين أدركت صدق نيته إزاء ابنها وتأكدت أنه سيساعده على تحقيق رغبته الموسيقية الجامحة.
التحق محمد عام 1922 بكلية Northern College of Music بمدينة مانشستر حيث درس النظريات الموسيقية إلى جانب اللغات والأدب والفلسفة ثم بالأكاديمية الملكية Royal Academy of Music بلندن تلميذا للأستاذ Levingston في مادة الهارموني التي تفوّق فيها.
كانت النمسا آنذاك مركزًا لفرق الأوركسترا الفيلهارمونية وكان للثري علاقة بوجهائها فاصطحبه إلى فيينّا وقدمه للأستاذ النمساوي وعازف البيانو الشهير Alfred Grünfeld (1852+1924) وللأستاذ Robert Fishof لتعميق دراسته للبيانو وتقنيات التأليف.
ولئن يشكك البعض في صحة انتسابه إلى المعاهد المذكورة بالقول إنه لم يدرس فيها بل في الخاص بحجة أن اسمه غير مُثبت في أرشيفها إلاّ أن أعماله في مختلف قوالب التأليف السيمفوني الكلاسيكي والحر تدلّ على موهبة أكيدة وتقنية متينة لم تتوفر لدى معاصريه من مؤلفي المشرق أو المغرب سوى الذين أخذوها مباشرة من منابعها وهم قلّة.
ففي عام 1934 وبعد عدة سيمفونيات ناجحة تم قبوله في جمعية المؤلفين والملحنين وناشري الموسيقى العالمية (SACEM) كمؤلف وملحن كما انضم في نفس العام إلى جمعية المؤلفين والملحنين الدراميين (SACD)، علما بأن العضوية لا تُمنح إلا بعد اجتياز امتحان يثبت كفاءته في مجال الاختصاص.
كان عمره ثمانية عشر عامًا عندما ظهر علنًا لأول مرة سنة 1925 في حفل موسيقي ببحيرة كونستانس Constance في بريغينز Bregenz بولاية بازل Bâle الحرة وقدّم خلالها للجمهور النمساوي أولى أعماله المطبوعة بسمات جزائرية أصيلة: الرابسودي القبائلية Kabylia رقم 9 والرابسودي العربية Aeabic Rhapsodie رقم 7.
والرابسودي هي مقطوعة موسيقية آلية ذات تأليف إبداعي حرّ مستلهم من عناصر الموسيقى الشعبية المحلية أو الإقليمية لكن دون محاكاة.
كانت الجزائر منذ احتلالها عام 1830 تُعتبر “مقاطعة” فرنسية وامتدادا للوطن الأم ناهيك أنهم أطلقوا على العاصمة “باريس الصغرى” le petit Paris لما شُيّد فيها من منشآت تليق بعظمة الإمبراطورية الثانية. وقد حرصوا على نشر ثقافتهم “المتطوّرة” وضخّ أسبابِ الحضارة التي اكتسبوها من ذلك أن أولى التسجيلات الموسيقية على الفونوغراف في البلاد العربية بدأت في الجزائر كما ظهرت فيها أولى الصور السينمائية.
ومثل كل المبدعين المنتمين إلى التيّار القومي في الموسيقى انخرط إيڤَربوشن في صلب المنظومة الموسيقية الأوروبية بقوالبها وتقنياتها مسنودا بهويّته المحلية التي تتجلى من خلال مؤلفاته، وكان منذ البداية متقدمًا جدًا على عصره من خلال اهتمامه بقوالب غربية لم يكن من السهل تقبّلها في خضم التضادّ بين الثقافتين.
نأى إيڤَربوشن قليلاً عن الموسيقى السيمفونية واتجه نحو السينما فألّف الموسيقى التصويرية لعديد لأفلام التسجيلية مثل “عزيزة” لمحمد زينات، “غوّاصو الصحراء” و”سيرتا” للطاهر حنّاش “القصر الوحيد” وفيلم قصير “جزائر” عرض عليه المخرج Julien Duvivier (1896-1967) مشاركة الملحن السينمائي الفرنسي Vincent Scotto في تأليف الموسيقى التصويرية لفيلم Pépé le Moko (1938) الذي أعيد إنتاجه في العام ذاته بنسخة أمريكية من إخراج John Cromwell وتحمل عنوان “قصبة”.
من بين مسيرته الموسيقية الغنية كانت مؤلفاته الموسيقية السينمائية هي التي كشفته للعالم الغربي لأنه كان “يتمتع بموهبة التقاط بُنية الفيلم وتحويله بسرعة إلى موسيقى”.
ويمكن أن نستشف ذلك من شريط “بيم الحمار الصغير” (1950) الخالي من الحوار والمبني على الصورة والموسيقى والمؤثرات الصوتية. فالقصة التي يرويها الشاعر جاك بريفير Jacques Prévert بصوته هي حدّوتة حمار صغير يملكه صبي فقير يجتهد ابن محافظ المدينة (الڤايد) أن ينتزعه منه بشتى الوسائل ولكن دون جدوى. وقد استطاع إيڤَربوشن التعبير عن ذلك من خلال موسيقى تتألف من جزأين مختلفين:
أولا: الافتتاحية المصاحبة لمقدمة الشريط وهي عبارة عن ترنيمة صوتية لصبي يلعب لحنُها مستوحى من المخزون السمعي العام ومقتبس من مقدّمة “قالت” لمحمد عبد الوهاب.
ثانيا: الموسيقى التصويرية لمعبّرة عن المناخ العام للشريط، وهي كتابة وصْفية بمدلولات آلية للأركسترا تعتمد على تفاعل الألحان فيما بينها.
في عام 1937 كتب موسيقى “الأرض المثالية” Terre idéale إخراج Jean Kharski وهو فيلم تسجيلي عن تونس مما أدى إلى ترسيخ شهرته العالمية.
في السنة الموالية عاد إلى إنجلترا بدعوة من هيئة الإذاعة البريطانية ليقود إحدى سيمفونياته ويقدم رابسودي مغاربية Rhapsodie mauresque وهي الثالثة بعد الاثنين التي أكسبتاه نجاحا كبيرا في النمسا. وكان إعجاب الجمهور الإنجليزي شديدا بهذا العمل معتقدا أن مؤلفه روسي اسمه إيغور بوشن Igor Buchen.
في عام 1940 عهدت إليه شركة Paris Mondial السينمائية بالإدارة الموسيقية لإنتاجها فقام بتأليف الموسيقى لحوالي عشرين فيلمًا قصيرًا لشركة Mercier Films Inc.
عمل محمد إيڤَربوشن عام 1939 مع المخرجة Georgette Le Tourneur de Marçay في فيلم Vision saharienne كما قام بتأليف موسيقى فيلم Minaret dans le Soleil الذي يروي تاريخ مدينة تلمسان وحاز على جائزة في مهرجان البندقية السينمائي عام 1949.
في سنة 1956 عمل إيڤَربوشن كقائد للفرقة الموسيقية في قسم ELAK بالإذاعة الفرنسية الذي يبث باللغة العربية وبالقبايلية وأنتج خلالها 165 عملاً حديثًا يمزج الموسيقى الشرقية والغربية مع الإيقاعات الشائعة آنذاك كالمامبو والفالز والبوليرو إضافة إلى مؤلفات الأوركسترا مثل الرابسودي والفنتازي الجزائري وكونشرتو الفيولا والأوركسترا والثلاثيات والرباعيات.
وفي محاولة لحصر تراثه الذي لم يتم فهرسته بشكل كامل يقدّر مدوّنو سيرته عدد مؤلفاته بحوالي 600 عمل في مختلف الأنماط ويخصّون بالذكر منها: “القبايل” Kabylia سيمفونية للأوركسترا، “ساراسواتي” Saraswati قصيد سيمفوني، “الرقص أمام الموت” باليه، اثنان من الرابسوديات القبائلية لأوركسترا كبيرة بالإضافة إلى 160 رابسودي أخرى كلها من وحي التراث الجزائري.
توفي محمد إيڤَربوشن عام 1966 تاركا وراءه أعمالا موسيقية كبيرة كما قدم برامج إذاعية باللغة القبايلية وأنقذ العديد من الأغاني البربرية ومطربيها من النسيان. ولا تزال برامجه الإذاعية موجودة في أرشيف المعهد الوطني السمعي البصري INA مع برامج تلفزيونية أخرى منها أربعون برنامجًا أدبيًا مدتها ثلاثون دقيقة تحت عنوان “أناشيد حب الإسلام” وحوالي أربعين برنامجًا آخر تحت عنوان “المشرق”.
يقول د. مولود أونّوغان في مقدمة كتابه une œuvre intemporelle (عمل خالد) الصدر بالجزائر عام 2015 والذي خصصه للتعريف بالموسيقار إيڤَربوشن وتحليل أعماله:
“هناك فنانون يطبعون عصرهم من خلال الموهبة وآخرون يكتبون أسمائهم من خلال الإبداع الأصيل. لكن عددا قليلا جدًا من الناس ينقشون عبقريتهم التاريخية لدى الأجيال القادمة في معبد الفنانين. وينطبق هذا المؤهل للأسف على إيڤَربوشن بعد وفاته”.
(يتبع)