كثيرا ما أتحرّج من دعوة مباشرة بالهاتف الجوّال أو خفيّة بالبريد الإلكتروني لحضور ما يسمّى بالنشاط الثقافي من نوع أربعينيّة فلان والذكرى الأولى لوفاة فلتان وتقديم كتاب وأمثال هذه العناوين التي أصبحت كبحر الرجز عند الشعراء مركبا لخرّيجي معاهد عالية مختصّة في التنشيط والمسرح والصحافة ولممثّلين كلّفتهم البلديّة بإدارة فضاءاتها الثقافية استجابة لرغبتهم في الراحة واقتناص أدوار على الركح أو في التلفزة والسينما.
وأحاول عديد المرّات الإفلات من عقوبة الجلوس لساعتين مستمعا لكلام فارغ لا يصلح لا للدنيا ولا للدين. ولكنّي أحيانا أضطرّ للقبول وأظلّ مشغول البال بالموعد خشية إخلافه، ثمّ أتحمّل أتعاب التنقّل وتكاليفه سواء على الأقدام أو السيّارة وحسب المكان إن كان في المدينة العتيقة أو في الأحواز أو في بلدتي الطيّبة أو في غيرها.
وبدل أن أستفيد وأفيد ولو بكلمة أعود بضمير موبّخ على الوقت الثمين الذي أضعته من العمر القصير. وأقدّر أنّ الوقت الذي أهدرته في التنقّل والحضور كان يمكن أن يكون مثمرا لي ولغيري لو بقيت في منزلي بين كتبي قارئا أو كاتبا أو متابعا محاضرات الدكتور يوسف زيدان ومن في مستواه. وأربع ساعات تقريبا من عشيّة الجمعة أو صبيحة السبت، حسب العادة الجديدة في البرمجة الثقافية، كافية على الأقلّ لتحرير مقال أو قصّة قصيرة أو فصل من تأليف جديد بقدر يساهم في رفع الجهل وتنوير العقول أو حتّى في الترويح عن النفوس في هذا الزمن التعيس تبعا لثورة الفوضى والتخريب.
ولو قمت بعمليّة حسابيّة ضاربا تلك الساعات في عدد الحاضرين على قلّتهم مقابل جمهور المقاهي والملاعب لبدت النتيجة كارثيّة اعتبارا لوقت بقدر أيّام خسرته المجموعة الوطنيّة والبلاد بصفة عامة، وكان الأفضل والأنفع للفرد والمجتمع لو أنفقه كلّ في مجاله على قدر اجتهاده في خدمة الوطن بصدق وإخلاص خاصة اليوم وقد أصبح الوضع العام لا يحتمل أكثر ممّا كان من التراخي والتهاون والعبث والفساد، بل يستوجب توحيد الجهود ونكران الذات والبذل السخي والتفاني المسترسل على درب الإصلاح والإنقاذ والإنماء.
وإهدار الوقت كإهدار الماء وإفناء المال، أو هو أكثر لو كانت فيه فاتورة استخلاص كفاتورتي شركتي الماء والكهرباء والغاز أو كان عليه اقتطاع كالذي توظّفه البنوك على القروض ولكنّه، أي الوقت، ينساب أمام أعيننا وينفلت من بين أيدينا ونحن في نشوة السكران أو غفلة المهووس بالطبل والمزمار في مهرجانات السخافة والأسماء المكرّرة كالمسامير الصدئة.
وإذا كنت أكثر حرصا من غيري على الاستفادة من وقتي فإنّ وزارة الثقافة لا تحرص على حسن توظيف مؤسّساتها وأموالها فإذا هي تتكرّم على سينمائي نصف مشهور أو على ممثّلة صاعدة أو على مهرجان بأسبوع بحوالي مليون دينار.وفي المقابل تسوّغ المتر المربّع في أجنحة العرض للناشرين بمعلوم يضمن للجميع الخسارة المحقّقة زيادة على مصاريف نقل الكتب وإعاشة الأعوان. ذلك لأنّ آخر قطاع تفكّر فيه هذه الوزارة، بعد فقد الشاذلي القليبي ومحمود المسعدي والبشير بن سلامة، رحمهم الله، هو الكتاب، بل تخصّص في معارضه فضاءات لمنافسيه من الوسائط الإلكترونية والأنشطة الشبيهة بالسوق الموازية كألعاب الأطفال والندوات التي لا يحضرها أكثر من عشرة أمام ثلاثة متكلّمين همّهم الوحيد هو المكافأة أسوة بالمحظوظين بالجوائز. وصورة الأروقة معبّرة عن الفشل في غياب رؤية تجدّد أو على الأقلّ إضافة تثري. وبكلّ أسف على المعرضين الأخيرين، الدولي ومن قبله الوطني، وبكلّ حبّ لخير أنيس في الحياة لاحظت ككلّ الناس قلّة الإقبال وقلّة الدعاية بل انعدامها والعزوف عن الشراء عدا كتيّب للولد أو للبنت إن استطاعا القراءة بعد ألفة الهاتف الذكي والحاسوب الساحر، وبقيّة النقود للطعام والشراب في الزحام.
ويا حسرة على تونس الأمس وعلى جيلنا المغرم بالمطالعة والمعوّل على الكتاب أداة للتعليم والثقافة والنجاح أيّام كنّا في السبعينات من القرن الماضي طلبة نناقش أساتذتنا المحترمين بما اقتنينا من معارض الكتاب ومن الأكشاك التي كانت تزين مع نصبات الزهور شارع الحبيب بورقيبة المعمور وبما حضرنا من المحاضرات وبما شاهدنا في نادي السينما مع معارض الفنون التشكيلية في داري الثقافة ابن رشيق وابن خلدون ونادي الطاهر الحداد والأروقة الأخرى. في ذلك الوقت لم نكن نضيع الوقت بل كنّا نرفع به المستوى. أمّا اليوم فاسألوا الأساتذة عن التلامذة والطلبة.وما هذه الأغصان إلاّ من تلك الجذوع. وهكذا أقولها للّبيب الذي دون الإشارة يفهم.