كانت العادة تجري بأحسن الأمور فصارت تجري بأسوإ الفعال تبعا لتفشّي أزمة الذوق وفقر الخيال والعجز عن الإضافة والابتكار، وكأنّها نزعة إلى المجهود الأدنى في أيّ مجال حتّى أنّ المسؤول أو صاحب القرار والمحفوف بالمستشارين والمسنود بالمال لا يفكّر في أبعد من الحال ولا ينشغل بالمآل. وهذا يعبّر عنه بغياب الرؤية والتصوّر والتخطيط والإعداد والبرمجة، أي غياب الإستراتيجيّة، لا فرق بين إدارة المياه وبين التنشيط الثقافي.
فهذا كتاب خفيف لكاتب ركيك أصرّ على التطواف به في جلّ المعتمديّات لكامل الولايات وصاحبه صحافي سخيف يكتب عن كلّ لقاء في مكتبة أو في دار ثقافة مقالين، أولهما قبليّ بمثابة الإعلان، وثانيهما بعديّ بمثابة الإخبار، ولا فرق بينهما إلاّ صيغة الزمان تعويضا للفعل المضارع في المقال الأوّل بالفعل الماضي في المقال الثاني، مثل “ينتظم” التي تصبح “انتظم” أو “يلتقي” التي تصبح “التقى”. والحصيلة إل
حدّ الآن وبعد خمسة أشهر على الصدور خمسون مقالا من النوعين في الجريدة التي كنت أقرأها إلكترونيّا عند “الشروق” فصرت أتركها ورقيّا لبائع الدخان والمكسّرات عند الغروب.
وهذه كلمة تأبين المرحوم، وبعدها كلمات الأربعينيّة، وبعد عام ندوة الذكرى الأولى حتّى تحوّلت منابر الثقافة إلى مآتم للواقفين على الأطلال باكين وراثين المبدع الذي عاش مهمّشا فصار بموته مطيّة لكلّ ممجّد لذاته ومردّد العبارة المألوفة : “عرفته فنّانا، وعرفته إنسانا”، وهو في حياته لم يقرأ له كتابا ولو كان هديّة، وربّما قال في حضرته كلمة طيّبة فما إن نهض حتى أردفها بكلمة سيّئة. وما أعظم رصيد العرب من الرذائل بدءا بالحسد والاغتياب والنميمة وانتهاء إلى التهميش بالتشويش أو إلى التهجير بالتكفير! وأمثالنا الدارجة شاهدة على هذا السلوك ومخلّدة لهذه الطبيعة، مثل “يبيع القرد ويضحك على شاريه” و”يقتله ويمشي في جنازته” مقابل أمثال تسجّل الأنانيّة مثل “روحي روحي ولا يرحم من مات” ترجمة للمثل الفصيح كما صاغه في الشعر الفصيح أبو فراس الحمداني : “إذا متّ ضمآنا فلا نزل القطر”.
مشيت في الجنائز متأسّفا، وحضرت الأربعينيّات متعجّبا، وشاركت في ندوات الذكرى متحرّجا. تأسّفت على الفقيد، ثم تعجّبت من النفاق، ثمّ تحرّجت إذا خالفت القطيع فنقدت وقيّمت، ومن حولي مصرّ على البقاء في الدائرة الأولى، دائرة الرثاء بالثناء والبكاء والترحّم. ولست بارعا في إثارة المواجع بعد عام إذ “لا عزاء بعد ثلاثة”، فماذا أقول خارج أصوات السرب وفي حضرة أهل الفقيد وقد جاؤوا لسماع القول الجميل فيه والافتخار به؟ وهل ينفع الثقافة حاضرا ومستقبلا تمجيد شخص قام بواجبه في إطار وظيفته، لا أكثر ولا أقلّ، وربّما استغلّ صفته وفرصته لمصالح شخصيّة من ترقيات وامتيازات وسفرات؟
لا نفع من كلّ ذلك للبلاد والعباد عدا الأبناء والأحفاد، بل هي خسارة المال والوقت. وما أثمنهما في المطلق وبالذات في ظرفنا المتأزّم وأمام الخطر الجاثم!
لقد حضرت في مناسبات كالتي ذكرت تبعا لعلاقة علميّة وصلة أخويّة بأمثال عثمان الكعّاك وسليمان مصطفى زبيس وسعد غراب وحمادي الساحلي ومحمد اليعلاوي والجيلاني بن الحاج يحيى، رحمهم الله جميعا. ولكنّني اليوم لم أعد قادرا على مثل ذلك ولا مستعدّا، بعد ما سبق، للتأسّف في جنازة والتعجّب في أربعينيّة والتحرّج في ذكرى مرور عام على وفاة أيّ كان ومهما كان. والأفضل والأنفع والأسهل بالنسبة إليّ في سنّي هذه، وبدل إضاعة البقيّة الثمينة فيما تملّ منه الأذن وتضيق به النفس، هو الاعتكاف في بيتي بين كتبي وملفّاتي ملتزما بعملي المهمّ الذي يستحقّ جهدي بين المطالعة والكتابة في وقت وبين الاستفادة والاستمتاع بالمشاهدة والسماع في ساعة.
والكتابة بأجناسها مسؤوليّة أهل الفكر والأدب في حقّ الوطن ولأجل الشعب وتجاه الزمن. إنّها كالانتخاب حقّ وواجب مهما كانت الظروف والإمكانيات. والتاريخ يحاسب على الكلمة، والله الموفّق من وراء القصد، “إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه” (فاطر : 10)
ورحم الله الأديب اللبيب محمد العروسي المطوي حين قطع الطريق على الراكبين والمنافقين بوصيّة أن لا تقام له أربعينيّة إذا مات. ومن كتب لم يمت.