وهذا داعية إسلاميّ مشهور يُسأل عن الجنّة إن كان لها باب واحد أم عدّة أبواب فيدبّج للجواب مقدّمات طويلات، منها أنّ حور العين للرجال وحدهم إن شاؤوا غير زوجاتهم في الدنيا، ومنها أنّ المرأة المتزوّجة بأكثر من واحد في حالة وفاة الأوّل أو طلاق منه تختار من تشاء من أزواج الدنيا. ولولا أنّ محاوره ذكّره بالسؤال لتبسّط في العلم اللّدني إن كان في الجنّة طلاق بعد أن أمكن الزواج ولاستطرد في علم الغيب عن طعام أهل الجنّة وشرابهم مستشهدا بما ينسب إلى الرسول) ص) من الحديث، ولكنّه اضطرّ إلى العودة إلى جوهر الموضوع فقال إنّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض أحدها بما يقطعه الفارس النجيب طوال أربعين سنة، وأضاف إنّها درجات كما هم الناس في الدنيا طبقات، وفضّل تأجيل الكلام عن عذاب القبر وعلى الصراط وعن الميزان لقادم الحلقات.
هذا نوع أو مستوى من الخطاب الديني في القرن الواحد والعشرين لا يختلف عن بدع الأقدمين وكأنّنا لم نتقدّم بعد قرون على الدرب المنير بالعقل والعلم. وهو الخطاب الساحر الرائج في جمهور الكثيرين من الأمّيين والسذّج الحالمين بآخرة مادّية مقاسة على الدنيا لتعويض تجارة بتجارة وسلعة بسلعة، وكأنّه هكذا تطمئنّ القلوب.
والعجيب أنّ دعاة هذا الخطاب أيمّة من معاهد الوعظ الذين يجيدون أدوارهم قولا ومظهرا على منابر الجمعة وعبر الفضائيّات على النحو الذي يعجب المصلّين والمشاهدين، والله أعلم إن كانوا هكذا درسوا فنشروا نفس البضاعة أم أنّهم زاغوا عن البرنامج القويم المختوم بالشهادة.
والذي أعرفه أنّ المسائل الدينيّة من تاريخ وتفسير وما تشمله علوم القرآن وعلوم الحديث إنّما كانت تدرّس في كلّية الشريعة وأصول الدين بشكل مخالف للّذي تدرّس به في كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة وتحديدا في مادّة الحضارة بقسم العربيّة. ولقد حضرت هنا وهناك زمن الدراسة الجامعيّة مستطلعا ومقارنا فلاحظت الفرق بين منهجين وبين تصوّرين، واطمأنّ قلبي وارتاح عقلي لوجودي في دار المعلّمين العليا بتونس متتلمذا لدى خيرة الأساتذة أمثال عبد المجيد الشرفي إذ درّسنا طيلة السنوات الأربع المنهجيّة ومقدّمة ابن خلدون وعلى هامش السيرة لطه حسين واتجاهات تفسير القرآن قديما وحديثا، وأمثال سعد غراب إذ درّسنا الحياة الفكريّة والمذهبيّة بإفريقيّة في القرون الأربعة الأولى الهجريّة. وكان لكلّ ذلك مع زملائه أثر عميق في تأهيلنا للمهنة الشريفة، وتوجيه صحيح لي شخصيّا فيما أكتب. ومنذ ذلك العهد المبكّر، أي من أكتوبر 1973 إلى جوان 1977، عرفنا الهيكليّة واللسانيّات وعلم النفس التربوي، وحضرنا محاضرات شارل بلاّ ومحمد أركون وهشام جعيّط ومحمد العزيز الحبابي وغير هؤلاء الأعلام ممّن كان يستدعيهم لنا مديرنا في عقر دارنا أو كانت تستضيفهم للجميع وزارة الثقافة عندما كانت في البلاد ثقافة ورؤية ومخطّط.
وللأسف فقد أتت العشريّة السوداء (2011-2021م) على ذلك البناء، وكأنّما شاء قدرنا أن نرجع إلى الصفر لنؤسّس من جديد لدورة أخرى من دورات التاريخ في المنظور الخلدوني.
وحال الكتاب من خلال معرضه خير دليل على الجهل القادم في عصر تكنولوجيا الاتّصال التي بها يزداد المتخلّف تخلّفا بمساعدة الفيسبوك في حين يزداد المتقدّم تقدّما بفضل حسن توظيفها. ولا لوم على أحد في واقعنا المأزوم، وطنيّا ودوليّا، بما أنّ العالم صار قرية في كنف العولمة والحداثة وما بعدها. وهل بالسلاح ينقذ الاقتصاد وتحمى القيم لتأسيس نظام عالميّ جديد أكثر سلما وعدلا ونماء؟
أمّا نحن “فكلّنا في الهمّ شرق” كما قال أحمد شوقي إبّان تجربة الوحدة المصريّة السوريّة أو كما صوّرنا طه حسين في رسالة إلى أندريه جيد بتاريخ 5 جويلية 1946: “كلاّ. إنّك لم تخطئ وإن ارتكبت هفوة. لقد خالطت كثيرا المسلمين لا الإسلام. وهذا في وقت جدّ عسير من تاريخهم، وقت انحطاط خطير سواء في شعورهم أو في معرفتهم بدينهم. فهؤلاء المسلمون الذين عرفتهم جدّ بسطاء وجهلاء ما كانوا يستطيعون أن يبيّنوا لك إن كان القرآن يقترح أجوبة أو يثير أسئلة. كانوا على أكثر تقدير قادرين على أن يعرّفوك بفلكلور بلادهم الخاضع لتأثير الصحراء المجاورة…”. وما أشبه اليوم بالأمس !