كلّما دعوت أو سمعت دعاء تذكّرت مشهد ذلك الحاجّ الإفريقي الأسمر الطويل النجاد الرفيع العماد وهو مصرّ على تكرار كلمة واحدة أمام ستار الكعبة المشرّفة طالبا من الربّ الكريم المعين: ” فلوس… فلوس”. وكأنّه لا يعرف غيرها من الكلام العربيّ الدارج. كان أجواره ذات اليمين وذات الشمال منشغلين كلّ بهمّه ومطلبه حتّى لفت أنظار بعضهم وأسماعهم، وقد صبروا عليه حتّى صار تعجّبهم واستنكارهم ابتساما وتسامحا ولم يجد أحدهم بدّا من قطع الدعاء والتوجّه إليه بالنصح أن يطلب غير “وسخ الدنيا” في هذا الموقف المقدّس المستجاب الدعاء. قال له: “اطلب الجنّة” فصار دعاؤه : “جنّة وفلوس… جنّة وفلوس”.
أنا أيضا تعجّبت واستنكرت ثمّ ابتسمت وقدّرت ظروف هذا الرجل ككلّ مسلم يعاني قلّة ذات اليد متحمّلا مسؤوليّة عائلة كثيرة المطالب. واستغفر الله إذ أنقذني من إثم سوء الظنّ وهداني إلى الحقّ باحترام هذا الذي يئس من الناس فتوجّه إلى ربّ الناس طمعا في أن ينال من رحمته ما يقيم به دنياه قبل أخراه. ومثله كمثل حالة استعجاليّة تستدعي إنقاذ الحياة قبل الصلاة.
ومهما أكّد الأيمّة الخطباء على معاني التراحم والتضامن والتكافل والتعاون تحت عنوان “الأخوّة في الإسلام من وحي القرآن والسنّة” فالحاجة ماسّة إلى أكثر ممّا قالوا عسى أن تنفع الذكرى المؤمنين. وسواء إن نظرنا إلى أهالينا في الأرياف الفقيرة أو إلى إخواننا في غزّة المستباحة فالدرس واحد. وهو أن نغيّر ما بأنفسنا من الأنانيّة والبغضاء والأطماع والعدوانيّة ونسمو بأرواحنا إلى القيم الإنسانيّة والأخلاق الفاضلة استجابة لدعوة جميع الأديان وجلّ المذاهب ما دام الخطاب هو نفسه إن صدر عن نبيّ أو صدر عن حكيم.
وخير الدعاء هو المختصر في كلمتين: ” الهداية في الدنيا والنجاة في الآخرة” وليس تلك السلسلة الطويلة من الأدعية المكرّرة التي يحفظها إمام الجمعة أو يقرأها من نفس الورقة القديمة. ولو تبسّطت لقلت: ” اللّهمّ احفظ صحّتي وأهلي واحفظني من الفقر والظلم ونجّني من النار … يا رحيم، يا غفّار”.
أين الإمام الجريء على مثل هذا الاختصار الكافي والمفيد بدل التكرار المملّ والاجترار البليد ؟ أليست خمس دقائق كافية لمثل هذا القول السديد بدل نصف ساعة مملّة بالرفع والخفض من الكلام المعروف ومزعجة بأخطاء اللغة وسوء الفهم والاستقواء بالحديث الضعيف؟
واحسرتاه على إمام بلدتي الطيّبة ورحمة الله عليه إذ كان المثل الأعلى في العلم والتقوى والانضباط والإرشاد، فضلا عن أناقته في منطقه وأصالته في مظهره. وكذلك كان القدوة الحسنة لمن شاء أن يكون مسلما صحيح الدين في هذا الزمن البعيد عن أزمنة الأنبياء والرسل. ذلك أنّه كان من أواخر ذلك الجيل الزيتونيّ المتشبّع بالتعليم الذي كان في الجامع الأعظم حامي حمى اللغة والدين والهويّة والوطن في ظلّ القرآن والسنّة والثقافة العربيّة وتحت عنوان الأمّة الإسلاميّة.
أين نحن وشبابنا اليوم من كلّ ذلك في غمرة الحداثة المزعومة وفي عاصفة تقنيات التواصل، من عبث الفيسبوك إلى سخافة التيكتوك؟ وماذا يستطيع التعليم من المدرسة إلى الجامعة أن يفعل لعقول تائهة وقلوب فارغة بعد أن استفحل فيه الفساد الممنهج على درب الدمار الشامل بتخطيط الاستعمار الجديد ولصالح الصهيونيّة التي شعارها: “دنيا وفلوس”؟