من تقاليد المؤلّفين قديما أن يتخيّروا لمصنّفاتهم عناوين مسجوعة وأن يستفتحوها بالبسملة والصلعمة والتسليم وأن يمهّدوا لها بكلام موزون في حمد الله على ما آتاهم من العلم والثناء على العلماء والمتعلّمين. وبعد عبارة “أمّا بعد” المألوفة كان من تقاليدهم أن يعرضوا موضوع الكتاب وأبوابه مبرّرين التأليف فيه، من باب التواضع لا التبجّح، بأنّه جواب اقتضاه سؤال بعض الطلاّب. ثمّ يأتي من يشرح الكتاب ومن يعلّق عليه بحاشية ومن يذيّله بتكملة أو من يختصره أو من ينظمه شعرا ميسور الحفظ لاستحضار قواعد اللغة وأحكام الفقه وغير ذلك من العلوم.
ومن تقاليد المؤلّفين حديثا أن يعملوا بـ”العتبات” اصطلاحا على العنوان الأصلي والعنوان الفرعي وصورة الغلاف وفقرة الصفحة الرابعة منه، وأحيانا الثانية والثالثة المطويّتين، وكذلك صورة المؤلّف وترجمته والصفحات الأولى من المتن كالإهداء والتصدير والتقديم، مع تأخير الفهرس أو الفهارس تبعا للمصادر والمراجع.
والحقّ أنّ هذه “المداخل” جديرة بالاهتمام والعناية لمصلحة مشتركة بين الكاتب والناشر والقارئ، فيها إفادة وفيها ترويج ولكنّ المشكل في الكيف دائما، وللأسف. فمن ذلك أنّ المصمّم لا يتصفّح الكتاب بل يكتفي بوحي العنوان لتخيّل صورة للغلاف بما يتبعها من الألوان والخطوط. والنتيجة الصادمة أنّ كتابا بعنوان “خريف العمر” من نوع السيرة يجعل له المصمّم مشهد أوراق الخريف الصفراء المتساقطة، وأنّ مجموعة مقالات في الثقافة والمجتمع بعنوان “إشراقات” يتخيّر لها مشهد الشروق. ومن ذلك أنّ العنوان الأصلي قد لا يدلّ على جنس المحتوى خاصّة إذا كان غامضا أو عامّا فيتقبّل على أنّه عنوان لرواية أو لمجموعة قصصيّة أو لمجموعة شعريّة. وقد تطغى عليه الشاعريّة والكتاب في النقد كأبعد ما يكون عن السرد والشعر أو في علم النفس البعيد عن الأدب إبداعا ونقدا. وقد يلحق بعنوان فرعيّ لا يضيف شيئا إلى القارئ أو يخصّص العامّ كأن يكون العنوان الأصلي “الفكاهة في الصحافة التونسيّة” والعنوان الفرعي “مقامات الجيلاني بن الحاج يحيى بجريدة الجزيرة الجربيّة نموذجا”. ويا لها من انتكاسة من توقّع الشمول المغري إلى مفاجأة الخصوص الضيّق ! ومن ذلك فقرة الغلاف الأخير وترجمة المؤلّف إذا لم يراع فيها الإيجاز والتركيز مع وضوح الخطّ. وظهر الكتاب بعد وجهه من جملة اعتبارات المشتري. ومن أسخف ما قرأت في هذا الجانب تنصيص أحدهم على أنّه “باحث أكاديمي، نشر عديد المقالات العلميّة في مجلاّت محكّمة، وشارك في عديد الملتقيات العلميّة (أيضا) داخل البلاد وخارجها، ومن إصداراته ومخطوطاته كذا وكذا من العناوين بما في ذلك الرسائل الجامعيّة”. ومن ذلك أيضا التصدير بقول مأثور من النثر والشعر كمثل أو حكمة في علاقة بالموضوع ممّا يشترط فيه الوضوح والإضافة والإفادة، لا مجرّد الزينة بالأسماء الأجنبيّة خصوصا.
وأغرب الإهداءات هذا الذي يحتاج إلى صبر أيّوب إذ كتب أحد حاملي الشهادات العليا “المضروبة” ما يلي: ” إلى قبلة العارفين ومنارة العلماء حبيبي وسيّدي محمد صلّى الله عليه وسلّم. إلى من انتظرت هذه اللحظة بفارغ الصبر، إلى أمّي الحبيبة. إلى الذي فتح جدار اليأس بابا لنا وجعل لنا المستحيل ممكنا، إلى أبي الحبيب. إلى من عاشوا معي الحياة حلوها ومرّها، إلى إخوتي وأخواتي. إلـى من يلهج بذكرهم قلبي، إلى أهل الوفاء، إلى أصدقائي الأعزاء. إلى من علّموني أنّ الحياة عمل وعطاء، إلى من كانوا لنا عونا وسندا، إلى أساتذتنا الأفاضل.” (بالرجوع إلى السطر كلّ مرّة مع حرف الجرّ “إلى”). وكان يحسن اختصار القائمة على هذا النحو: “إلى والديّ وأقربائي وأصدقائي وأساتذتي وبالأخصّ الأستاذ المشرف” أو هكذا: “إلى القارئ” وكلّهم قرّاء.
أمّا مشكلة المشاكل فهي الخاتمة التي تكرّر المقدّمة بتحويل أفعال المضارع إلى أفعال الماضي، كأن يقول المؤلّف في المقدّمة: ” سندرس…” ويجعلها في الخاتمة: ” درسنا…”
وأمّا أخطاء اللغة والتعبير وفوضى البيبليوغرافيا في أكثر الأطاريح، وبالأخصّ في قسم التاريخ، فحدّث ولا حرج. هذا هو المستوى، ورحم الله شيوخنا الذين أسّسوا الجامعة التونسيّة على سلامة اللغة والمنهج وسعة المعرفة وتواضع العلماء.