بقلم عبد الجليل المسعودي
تصحيحا، في البداية، لبعض المعتقدات، نذكر اولا، أن فن الأوبرا ليس جديدا ولا غريبا في بلاد العرب. ففي مصر فتحت “الأوبرا الجديدة” في القاهرة ابوابها في سنة 1871 بعد ان اسغرق بناؤها عشر سنوات، وهي فترة لم تكن متأخرة كثيرا عن فترة تطور وانتشار هذا الفن في اوروبا في شكله الحاضر. وفي مصر كذلك، وتحت تأثير حضور الفن الأبرالي عبر كبار المبدعين أمثال الإيطالي جيوسيبي فاردي الذي كتب أوبرا “عايدة” الشهيرة بطلب من الخديوي اسماعيل باشا بمناسبة افتتاح قناة السويس، كثير من الموسيقيين العرب في مصر والشام حاولوا تقديم أعمال اوبرالية، منها ما لاقى الاهتمام والنجاح. وقد تواصلت هذه التجربة الى حدود منتصف القرن العشرين لتنال اهتمام موسقيين شعراء لعل اشهرهم محمد عبد الوهاب واحمد شوقي.
مع نهاية القرن الماضي ووصول عدد من حكام العرب الذين درسوا في جامعات أوروبية-انجليزية خصوصا- الى سدة الحكم ومراكز القرار، أنشئت عديد المسارح الأوبرالية في عمان والامارات والبحرين وغيرها من البلدان العربية الخليجية.
في تونس ورغم تاريخ حافل بالممارسات الفنية التي تحتل فيها عروض الاوبرا والبالي الكلاسيكي القادمة من فرنسا أو ايطاليا مكانا مهمّا في الحياة الثقافية في العاصمة وبعض المدن الاخرى مثل صفاقس وسوسة، الا أن التوجه الثقافي الموسيقي نحو المشرق العربي منذ الاستقلال، والذي جعل من بلادنا الأقرب ذوقيا الى الفنون المشرقية، فإن فن البالي والغناء الاوبيراليbel canto، تضاءل واختفى تحت ضغط التحولات التي عرفها المجتمع التونسي منذ سبعينيات القرن الماضي.
…وفجأةً ظهرت الأوبرا على ركح مهرجان قرطاج. وفجأة تكلمت “كارمن”بالتونسي.
كارمن التي لحنها الفرنسي بيزاي اعتمادا على قصة الكاتب بروسبير ميريماي في سبعينات القرن التاسع عشر، هي إحدى أشهر الأعمال الاوبرالية في العالم. كبار المغنين والمغنيات من أمثال الاغريقية ماريا كالاس والاسباني بلاثيدو دمنغو أسهموا في انتشار وشعبية اغاني وألحان هذه الأوبرا في العالم. وما من شك في ان قصة كارمن الفتاة الغجرية الاشبيلية المتمردة على التقاليد” والمتحدية للقوانين المجتمعية الجائرة، وخصوصا ارادتها المعلنة في العيش حرة حسب ما يتراءى لها، هو ما جعل هذه الأوبرا مغرية وجذابة، واكسبها حداثةً مستمرة لا تنقطع. ولا شك كذلك ان هذه الصفات المبرّزة في هذه الأوبرا هي التي دفعت بالفريق المنتج الى الأقدام على “تونسة” كارمن.،
لنقل أولا أن العرض الذي قُدّم على ركح قرطاج، كان ممتعا، لم يخل من عناصر الإتقان في الاداء والجمالية في المشهد والجرأة في تصور ضروريات إسقاط كامل عناصر القصة على واقع( تونسي) مختلف. وهنا أيضا يمكن القول إن الاركستر السمفوني عزف بكفاءة كبيرة، وإن الكورال أدى دوره دون اي تنافر ولا نشاز، وإن الاخراج الركحي تميّز بكثير من الذكاء ونجح في الجمع بين كل عناصر الفرجة في تناسق واتّساق. والاكيد ان وراء هذا النجاح الحاضرة بخفية وصاحبة الخبرة الكبيرة في المجال:سهام بلخوجة.
ويبقى الأهم في العمل هو المستوى الجيّد الذي ظهر به المنشدون بدءًا بصاحبة الدور الأول، مرام بوحبل، التي أدت شخصية كارمان بكثير من الدقة والاحساس ونجحت رغم صغر سنها وقلة تجربتها ان تعطي، بصوتها المزّو-سبرانو ذي النبرة الشرقية، كل ملامحها الحادة والمتناقضة لشخصية كارمن، المنفّرة والمحبِّبة في الآن، الطائعة والمتمردة. كذلك أو ربما أكثر من ذلك، كان حسان الدوس التينور الصّادح الذي ادّى دور دون جوساي بكثير من الحرفية وجسّد الشخصية ووفاها شروطها. هيثم هديري صاحب الصوت الباريتون الجهوري كان متألقا في دور اسكاميلو مصارع الثيران عشيق كارمن، وإن لم يتوصل الى إبراز كل التناقضات التي تميّز الشخصية. نسرين مهبولي التي أدّت دور ميكائلا خطيبة دون جوساي ذات القلب الصافي البريئ، كانت مبهرة بصوتها السبرانو. كل ذلك جميل وممتع ولكن…
أي فائدة، أي هدف؟
أي فائدة من “تونسة” كارمن؟ ثم وقبل ذلك هل من الممكن “تونسة” كارمن؟ المقصود ب”التونسة” هو نقلها من الفرنسية الى اللهجة التونسية. ليست ترجمتها بما تعني الترجمة من تكييف وملائمة وغير ذلك من “خيانات” المترجمين، وإنما نقل آلي وبسيط. المشكل ان اللهجة التونسية ليست واحدة بل متعددة وتختلف من جهة لأخرى ومن مستوى اجتماعي لآخر، لذلك وجدنا أنفسنا احيانا أمام كاريكاتير لغوي سخيفة ومثيرة للسخرية. الى ذلك يضاف ان تأقلم المشاهد التونسي مع مواضيع وثيمات مستوحاة من المعيش الأوروبي تبقى صعبة رغم تعميم هذا الأثر وانتشاره عالميا، ورغم الحاجة التي أصبحت تدفع بالتونسي الى البحث عن انتاجات فنّية في عصر الثقافة المعلومة.
ثم -وهذا هو السؤال- هل من الممكن فعلا “تونسة” الخطاب الموسيقي الغنائي الأبرالي؟ الجواب ليس بالسهل. لأن اللغة في الكتابة الموسيقية الاوبرالية ليست مجرّد وعاء يمكن إبداله كما نشاء، وإنما هي ذات وظيفة جوهرية (consubstantielle) لا يمكن فصلها عن اللحن الموسيقي. فالكلمة، والحرف وحتى الصوت (phonème) ليس اعتباطيا في التأليف الموسيقي، وكل مقطع من تلك المقاطع اللغوية في الاداء الغنائي له رنينه، ووقعه، وأثره وتأثيره على المشاهد-المستمع، ولا يمكن تعويضه باي مقطع آخر في اي لغة أخرى. من أجل ذلك تبقى الأعمال الاوبرالية تُؤدّى في اللغة الأصلية التي أُلفت فيها. ولم نسمع ان “دون جيوفاني” موزار، أو “ترافياتا” فاردي أو “توسكا” بوتشيني تُرجمت لاي لغة حتى وإن كانت أوروبية.
إذن ماذا افدنا من تونسة كارمن؟
ماذا ربحنا من تونسة كارمن؟
ربحنا أولا تجربة تستحقّ التفكير حولها في معاهدنا الموسيقية واوساطنا النقدية. ربحنا ثانيا، اداءات محليّة على ألحان عالمية بما يكسر هيمنة موسيقى القوالب الجاهزة والحصار المشرقي. ربحنا، ثالثا، ارادة الانصهار في مدار العالمية والتخلص من رداءة الجاذبية المحلية. ربحنا، خصوصا،ميلاد فنانين وجماهير تسعى الى الارتقاء بذائقتها والاسهام في فنون العالم.
غير أن كل هذه المكاسب التي حققتها تجربة “تونسة” كارمن كانت تكون أوفر وأهمّ وأبقى لو تمّ اختيار الفصحى مكان اللهجة التونسية. اللهم اذا كانت أهداف أخرى وراء اللجوء إلى العاميّة…