مسرحية “بخارة” التي عُرضت أمس على مسرح مهرجان الحمامات، تثير الاهتمام لأكثر من سبب.
اولا، لأنها تمثّل باكورة عمل الشاب صادق الطرابلسي، الذي يجد نفسه ينتقل سريعا من خفاء الكواليس إلى أضواء الرّكح، وما يعني ذلك من مخاطر المسؤولية الأولى في العمل المسرحي: الإخراج.
والمسرحية مهمة، ثانيا، لأنها تجمع عددا من ممثلين جيّدين شوهدوا في أعمال ناجحة كان أهمّها مسرحيّة “دارك صايد” للثنائي المسعودي/السعيدي، ومن هؤلاء رمزي عزيز ومريم بن حسن وعلي بن سعيد، والذين أصبحوا يكوّنون مجموعة متكاملة.
والمسرحية مهمة، ثالثا، وخصوصا، لأنها تثير إحدى أهم القضايا وأثقلها واشدّها في البلاد: إنها قضية التلوث البيئي.
لا يحتاج المشاهد لوقت طويل ليدرك ان المخرج الذي هو كذلك صاحب النصّ، يتحدث عن كارثة الفوسفوجيبس بمدينة قابس. المسرحية تنطلق باستحضار ذكريات والوان ماضٍ سعيد يرويها كهل عبر أعين طفل صغير كان يرى الأشياء في شكل صور من جنّة بحرية تتراقص فيها الأشجار و الأسماك من كل نوع. ثم تتحول الواحة الى صحراء، والحلم الى كابوس بلا صور واضحة ولا ألوان، يستبدّ بحياة الناس، يشغل يومهم ويملأ دنياهم بأصوات حادّة كأنها نذير شؤم أو دعوة لموت زاحف.
المخرج ينجح منذ البداية في وضع الإيقاع الصحيح وشدّ المشاهد الى عمله وإدخاله عالمه الغريب والمتأزّم، مستعملا كل وسائل التعبير التي تتوخاها المدرسة الطبيعية بما فيها الخطاب المباشر، دون جمالية متكلفة ولا محاولة إخفاء الواقع المؤسف والحقائق المحزنة التي يؤول لها وضع الانسان حين يُختصر في حالة حيوانية يعيش الضيق والانحراف والخصاصة والحرمان والمرض. كثير من المكتشفات الركحية في حركية الممثلين، وتعابيرهم في تناسقها أو تنافرها، والمجادلات اللفظية المفتعلة والمنتجة للإلتباس وسوء التفاهم واللجوء الى “العبارات السوقية” احيانا، ساهمت بفضل، خبرة ودربة الممثلين في تصوير واقع الانحلال والمسوخ الذي يعيشه المجتمع تحت وطأة التلوث.
ولعلّ النجاح الأكثر لفتا للنظر في مسرحية “بخّارة”هو انها، ورغم توخي الخطاب المباشر في طرح عواقب وانعكاسات الكارثة البيئية، لا تقول الأشياء ولا أو تُسمىها جهرا، وإنما عبر جُمل وعبارات مجتزأة أو بواسطة إحاءات، ما أكسب مجرى أحداثها قوة وتشويقا. كان ذلك الى حدّ ظهور شخصية الرجل الأجنبي الرامز لرأس المال الاستغلالي، والذي كسّر كلّ ما بنته المسرحية من خيال وقراءة حرّة وتقبّل مختلف للمسرحية. وكأن المؤلف-المخرج قرر فجأة ان جمهوره كان أقل ذكاءًا من أن يفهم عمله ويلمّ بتعقيدات القضية المطروحة فعيّن له، في تبسيط شديد قاتل، المسؤول عن فقره وتخلّفه وآلامه: انه ذلك الأجنبي الابيض الذي يدخّن الهبانا، ويحتسي الويسكي، ويستمع الى قدّاس موزار. كليشيهات أضرت بعمل ذكي، حيّ وطموح، كان يمكن ان يكون من أجود أعمال الموسم. هل هو غرور ام قلّة نضج شبابي؟ الأكيد ان ما أظهره صادق الطرابلسي من براعة تقنية ومن شجاعة في الطرح وتحكّم في عناصر الفرجة توشي كلها بأنه مشروع مخرج ذي مستقبل كبير.