لم ينفك لبنان منذ 50 سنه يدفع ثمن طلائعيته التاريخية، التي اهّلته ان يكون منذ نهاية القرن 19 قاطرة العالم العربي نحو التنوير والتحرر الفكري.
كل العرب مدينون للبنان في استيقاظ وعيهم بتاريخهم، في معرفتهم بحضارتهم، في إدراكهم بضرورة تحقيق التوازن بين الإصلاح والحداثه.
كل شعب عربي ملزم بقدر من الإمتنان للبنان لخروجه من كهف الجمود والانحطاط والانغلاق والتخلّف، ومعانقة طموح التطوّر والإنصهار في حركيّة العصر. لقد استعدنا ذاكرتنا التاريخيه، وأعدنا تعلّم لغتنا العربية الجميلة، وأحيينا تراثنا الأدبي التليد، وأنشأنا ذائقتنا الفنية، وانفتحنا على علوم وفكر وفنون العالم، كل ذلك بفضل أساتذة ومفكري وأدباء لبنان.
لقد تلقينا أولى دروس الحريّه والديمقراطيه والعيش المشترك والسلام بين المجتمعات المختلفه من لبنان. لكن هذه الحقيقة الرائعة كانت أجمل من ان تدوم لأن أعداء الخارج والداخل-خصوصا- كانوا أكثر عددا وإصرارا من الأصدقاء، وكانوا يتربصون بهذا الاستثناء اللبناني في بحر التزمّت والانغلاق الثقافي والاجتماعي العربي، فاضرموا نارا للفتنه حتى اسقطوا هذا البلد وشعبه، مخترع الكتابه ومروّض البحار، في حرب أهليّه مدمّرة دامت عشرية كاملة، وكادت أن تفكك اواصر لبنان وتنهي وجوده
لكن لبنان العربي، وإن جاع اليوم وافتقر وأصبح عاجزا حتى عن دفع فاتورة الكهرباء، وهو الذي أنار ليل العرب، لم يستسلم ولم يبدّل تبديلا، وبقي حيّا، حيويّا، ثابتا ومتجددا، يلد في كل مرة من رماده، وها هو اليوم في مركز طليعة المقاومة ضد الانخدال والانحلال، من أجل الشّرف والكرامة.
لبنان يدفع اليوم ثمن رفضه وصموده من دم ابنائه الذين يستشهون كل يوم. يدفع الثمن باهظا من استقراره المفقود، من نموّ اقتصاده المعطّل، من تضحياته وهو يقف في وجه الآلة العسكريه الاسرائيليه المدعومة عددا وعتادا من الغرب الذي لم يستنفد رغائبه الاستعمارية. لبنان يدفع ثمن خضوع اخوانه العرب وخنوعهم، واستسلامهم، واستكراشهم، وخيانتهم لقضيتهم