يكتب الأديب سيرته الذاتيّة مستمتعا بكتابتها، لا يخشى فيما كتب لومة لائم إن هو تصرّف في الأحداث إلى حدّ الكذب الحلال، وأثرى الوقائع بروائع الخيال، وزاد أو أنقص، وقدّم وأخّر، وأطنب فيما أحبّ واختصر ما لم يعجب، وسعى إلى تلميع صورته ومدح صفاته وخصاله توقا إلى التميّز والتفوّق. ويطالعها القارئ مستمتعا بما فيها من جماليّة الفنّ، وخاصّة منها الوصف والتشويق، ولا يسأل عن الصدق في حضرة الخيال، ولا حتّى عن الأمكنة والأزمنة والشخصيّات والحبكة إن كان الكاتب ملتزما بالحقائق ومنطق الأحداث. تلك هي الحرّية المتخلّصة من أيّة مسؤوليّة، والقاسم المشترك بين الباثّ والمتقبّل من دون أيّ شرط. ولا حرج إن جاءت السيرة الأدبيّة مقسّمة على أكثر من كتاب بأكثر من عنوان. ولا خوف من النقد والانتقاد.
أمّا السيرة السياسيّة فيكتبها المناضل الوطنيّ والمسؤول السياسيّ كتجربة فريدة في شكل كتاب العمر، بل كمغامرة غير مسبوقة بتدريب على التعبير والتأليف. يكتبها متوجّسا خيفة من كلّ قارئ، متوقّعا وصولها إلى مؤرّخ محقّق وفق ما لديه من المصادر ومن الشهادات، حريص على استجلاء الحقائق من خلال ما يُجري بينها من التقاطعات والمقارنات. ولا اشتراك بينهما في أيّة متعة، إنّما هما شريكان في المتاعب والمخاوف، متاعب الاستقصاء ومخاوف الزلل.
وإذا كانت السيرة الأدبيّة متاحة لعموم القرّاء على اختلاف الأعمار والأجناس والمستويات التعليميّة فإنّ السيرة السياسيّة موجّهة بالخصوص إلى المؤرّخين المتخصّصين في التاريخ المعاصر عادة، وإلى النخبة من المتحزّبين على اختلاف أحزابهم ومن كبار الموظّفين على اختلاف مهامّهم. وكلّ منهم مشارك في الأحداث وشاهد على العصر.
فهؤلاء أشدّ من نقّاد الأدب وأجناسه المختلفة، وأكثرهم تدقيقا بحثا عن التفاصيل وبالأخصّ عن حضورهم فيما يقرؤون، ولا يرحمون. لا يعنيهم الخيال في بحثهم عن الحقيقة، ولا رأفة لهم بصاحب السيرة إن غفل عنهم أو لم يذكرهم بخير كما يشتهون. يحاسبونه على ما يُهمل من الأحداث والأسماء، ويتتبّعون سقطاته إن أخلّ بالترتيب والمنهج، أو تبسّط فيما تستحسن فيه الإشارة، أو عمّم فيما يجب فيه التخصيص، ويطالبونه بوضع النقاط على الحروف، وبالإضافة والإفادة .
ولكلّ هذا وجب على كاتب سيرته النضاليّة أن يتمتّع بذاكرة قويّة قوّة ذاكرة الفيل كما يشبّهون، وأن يتحلّى بالموضوعيّة وبالأخلاق الراقية ويتخلّص من سطوة الأنانيّة وطغيان الذاتيّة. ومن تلك الأخلاق الكريمة الصدق والإنصاف والعدل بدل الانحياز، والنزاهة والتسامح عوض تصفية الحسابات. ومنها أيضا التواضع بعيدا عن التكبّر والغرور حتّى لا يدّعي الحقيقة المطلقة فيرفض الرأي المخالف ويفرض رأيه على الناس ويزوّر التاريخ على قياسه.
في هذا الخضمّ تصبح مغامرة الكتابة في هذا الجنس المغري والمغوي كثيرة المزالق، وخيمة العواقب، محتارة بين إرضاء المؤرّخ وواجب التحفّظ. وكتابة التاريخ باعتماد هذا النوع من المصادر محنة فاتنة ومخاطرة حذرة، وحصيلتها غير نهائيّة، بل هي متجدّدة ومتواصلة، تتطلّب مزيد الشهادات وعديد المراجعات. وبين السطور خفايا ونوايا لا يدركها إلاّ أهل العقل والنظر الذين يستمتعون بقدر ما يتعبون. ولهذا الجهد المطلوب حقّ للتاريخ أن يفخر على سائر العلوم بأنّه ” فنّ عزيز المذهب، جمّ الفائدة، شريف الغاية” كما قال ابن خلدون. فأيّة فرحة للمؤرّخ بما لا يحسد عليه؟
هذا بعض ما ارتجلت باختصار يوم 2 جوان 2024 بمكتبة الكتاب تحت عنوان “بين الأدب والتاريخ” في حفل توقيع صديقي السياسيّ والدبلوماسيّ المكّي العلوي لكتابه ” مسار وذكريات” ( نقوش عربيّة، تونس 2024) متجنّبا تكرار ما كتبت له في التقديم الذي شرّفني به تبعا لمراجعة لغويّة ومطبعيّة، لأنّي أكره “البائت المسخّن” من الكلام بقدر ما أحبّه في الطعام .