من أبلغ ما قيل في الفن والفنانين الزجل البديع الذي ألّفه الأديب علي الدوعاجي (الدعاجي حسب توفيق بكّار) ومطلعه:
عاشْ يِتْمَنّى في عِنْبَة / ماتْ جابوا لُه عَنْقُودْ
ما يِسْعِدْ فَنّانِ الغَلْبَة / إلّا مِنْ تَحتِ اللْحودْ
ويختمه بهذا التحذير:
أحْنا بْهاذومَ نَحْيـــــاوْ / وْمـا نُنْكُرْشِ كُثْرِ نْفَعْهُمْ
إذا عْلِيهُمْ نِتْخَـــــلاّوْ / نْخافُوا الْمِيزِيرْيَـه تَبْلَعْهُمْ
نِنْفَعْهُمْ هُومَ حَيِّــينْ / حتّى بِشْوَيَّة وُعُــــــــــــــودْ
وِنْسَمِّيـــــهُم فَنّـانِــينْ / قْبَلْ ما يْزُورُوا اللْحُودْ
ونحن إذ نستحضر هذه الحكمة الخالدة نهديها إلى روح الرفيق الفنان الملحن العربي العلاّڤي الذي ارتقت روحه الطاهرة في 19 سبتمبر 2012 إثر مرض خبيث فتك بجسده في أقل من شهرين. فارقت روحه الحياة بالمستشفى وهو يدندن آخر لحن بشهادة رفيقه في الغرفة وكأن ملك الموت ألهمه إياه ليخطّ به سطرَ النهاية في دفتر حياة عاشها كما اتفق ودونما أن يقرأ للخاتمة حسابا.
وُلِد محمد العربي العَلاّڤي بالعاصمة في 11 جوان 1939 لعائلة عريقة مغرمة بالموسيقى والإنشاد الصوفي في زوايا العيساوية والشاذلية حيث كان بعض أقاربه لأمه من المُريدين وأصحاب العمل القائمين على الذكر والإنشاد. وإثر حصوله على دبلوم التصوير الهندسي عمل في مجاله مع مكتب هندسي ألماني ودرس الموسيقى موازاة بالمعهد الرشيدي ثم بالكونسرفتوار الوطني على الأساتذة الأوائل خميس الترنان ومحمد سعادة وعبد الحميد بلعلجية والمالطي Emanuel Cerri الذي ضمّه إلى مجموعة الكورال الغربي التي كان يُديرها.
تعلّم العود وأخذ التراث العربي الأصيل عن صهره الفنان القدير المنجي حمزة الذي كان حجة في المقامات العربية والأدوار والموشحات الشرقية. انخرط منذ بدايته في مسلك التجديد وبدأ مسيرته الفنية مع أوركسترا 71 الذي أسستُه عام 1970.
كان العَلاّڤي متأثرا بكبار موسيقيي الشرق: سيد درويش، محمد عبد الوهاب، محمد الموجي، كمال الطويل، وظل مهووسا بالبحث عن الموضوع اللحني thème الطريف والمعبّر عن معاني الكلام المُغنّى. بعد أوركسترا 71 الذي اندثر في نهاية العام 1973 واصل تقديم إنتاجه للإذاعة والتلفزيون وظلّ يمارس الموسيقى هواية ولا يبحث في ألحانه إلا عن الجودة والتميّز لذلك كان إنتاجه غير وفير ولكن متروّيا.
ألّف حوالي ثلاثين لحنا أو أكثر في قوالبَ وصيغَ متعددة (الموشح والقصيد والابتهال والطقطوقة) لشعراء مجدِدين أمثال سويلمي بوجمعة وعبد الحميد خريّف ومحمد الفريڤي وغنّاها مطربون تونسيون أمثال أحمد زرّوق (رحلة حب)، كمال رؤوف النڤاطي (لحظُ ريم)، مصطفى الشارني (العشق المُعَمّد)، عائدة بوخريص (رسائلكَ القديمة) وثامر عبد الجوّاد (لا تغضب). لحّن لمسرح العرائس والدمى المتحركة أوپريت سندباد إخراج عبد الحق خمير.
رفيقنا الثاني هو حَمدة الوسلاتي (شُهر عز الدين) من مواليد العاصمة في 10 ماي 1948 كان بيت عائلته بنهج السيدة عجولة قريبا من مسكننا بنهج الآغة وقضينا الطفولة بنفس الحي نلهو بالموسيقى على مقربة من ورشة صانع الآلات عبد العزيز الجميّل قبل أن تفرّقنا سنوات الدراسة. يعد تخرّجه من المدرسة القومية للإدارة عمل مدة بوزارة الفلاحة وانتسب إلى معهد الموسيقى مستمعا حرا حيث حصل على دبلوم الموسيقى العربية ودرس العود مع علي السريتي والهارموني مع أحمد عاشور وآلان ڤوتيي Alain Gautier.
انخرط منذ بداياته في مسلك الاتجاه التجديدي باحثا عن مزيـج متوازن بين الموسيقى العربية وتوظيف الآلات الحديثة. تقلّب في وظائف ثقافية وفنية عديدة فشغل مديرا لدار الثقافة بأريانة ثم باب العسل وأسس المعهد الجهوي للموسيقى بأريانة ثم المعهد المغاربي الخاص كما أسس الفرق الموسيقية (فرقة الأنوار 1980، فرقة مدينة أريانة 1983، أوركسترا نهاوند 1991) وكذلك مهرجان ”سهرات أريانة“ الذي أداره من 1981 إلى 1985.
لحن أغاني وقصائد للأصوات المنفردة والمجاميع من تأليف شعراء الطليعة سويلمي بوجمعة ومحمد الفريڤي وعبد الحميد خريّف كما وضع الموسيقى التصويرية للمسرح وعرائس الدمى المتحرّكة منها أوبريت “عشنا وشُفنا” من تأليف وإخراج محمد ڤمش لفرقة المسرح الجمهوري (1974)، “عرس الدم” تأليف غارسيا لوركا وإخراج عبد المجيد الأكحل لفرقة مدينة تونس للمسرح (1977) وأربع مسرحيات للعرائس.
أصيب بجلطة أقعدته في كرسي متحرّك لبضع سنوات قبل أن يفارق الحياة يوم 9 أفريل 2019 وهو يحلم باستعادة سالف نشاطه ويحمل في ذهنه مشاريع موسيقية كان يأمل في تحقيقها. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.رحم الله صديقين حميمين تلازمنا عشرات السنين وتقاسمنا معا هواجس الابتكار والتميّز والبحث عن موسيقى تعبّر عن انتسابنا إلى جيل له رؤيا خاصة، جيل يؤمن بقيمة الفنون في مجتمع لا يزال يتعثّر في طريق النمو.