صدق أبو العتاهية (130-211 هـ) أشهر شعراء العهد العبّاسي الأوّل بالزهد بعد حياة اللهو في قوله: (الطويل).
وإنّي لممّن يكره الموت والبِلى * ويعجبني روْح الحياة وطيبُها
ونحن كغيرنا مثله في حبّ الحياة وكره منغّص اللذّات وكلّنا أمل في طول العمر ولو بعُشُر عمر نوح. وقد عاش ألف سنة إلاّ خمسين، وصنع بنفسه سفينة النجاة من الطوفان الشامل. ومن الأنبياء من عاش أقلّ منه وأكثر منّا. والله أعلم بالسبب أو الغرض إذا طوّل أعمارا وقصّر أخرى. وما كان نبيّنا الكريم من المعمّرين وإن كان خاتم الأنبياء والمرسلين برسالة تستحقّ أكثر ممّا عاش ولو قال (ص) قول الله تعالى: ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة: 3).
فلا لوم إذًا على المرء إن طمع من الخالق في طول العمر بدافع الشعور بالعجز أمام مهامّ كثيرة مقابل حياة قصيرة. ولا لوم عليّ شخصيّا إذا تأسّفت على ما فات من الوقت الضائع في غمرة النشوة بالصحّة والفتوّة وإذا تخوّفت من الأجل المفاجئ مصدّقا قوله تعالى: ” إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون” (يونس : 49، النحل: 61 بتقديم الفاء). وعذري في أمل المزيد من الأعوام ليس “روْح الحياة وطيبها” بل هو مؤلّفاتي التي تنتظر النشر ما بين جاهز وشبه جاهز. وهي من فضل الله حوالي الثلاثين. وكان فضله عليّ كبيرا فيما نشرت سابقا بعدد خمسين. وهو العليم بالوقت المصروف والجهد المبذول على حساب كثير من الأنعام والشؤون. ورغبتي في طول العمر ليس كرها للموت والبلى بل هي لهذه الكتب الثمينة التي اشتريتها منذ عقود مبجّلة على متع الحياة من المأكل والملبس والرفاه والترفيه. وما كنت أحسب أن يخونني الوقت فلا أجد ساعة من نهار أو أسبوع للنظر فيها عدا مجرّد النظر إليها وهي زينة مكتبتي في تمام نظام الرصف وكمال جدّة ما لم يفتح، وأكثرها مجلّدات مذهّبات.
فمنها كتاب” الأغاني” للأصفهاني في 27 جزءا، الأخيران منها للفهارس (تحـ. عبد علي مهنّا، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط 2/1992، مجلّدة). فهذا لم أقرأ منه غير الفصلين الطويلين المخصّصين لعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة لعلاقة بالتدريس. ومنها “نفح الطيب” للمقّري التلمساني (تحـ. إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت 1988، مجلّدة). وهذا لم أفتحه بالمرّة وأنا الشغوف بالدراسات الأندلسيّة غير أنّي استفدت من مصادر أخرى مثل كتاب “دولة الإسلام في الأندلس” لمحمّد عبد الله عنان في ستّة مجلّدات (دار سحنون، تونس، ط 3/1990، مجلّدة). ومنها “مروج الذهب” للمسعودي في أربعة مجلّدات (تحـ. محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة الإسلاميّة، بيروت، ط 1/1948، ط. جديدة، د.ت، مجلّدة). فهو كما سبق لم أفتحه على أمل التفرّغ له والاستمتاع به. وها قد ضاع الأمل، فما العمل؟
أمّا بيعها فلا يمكن لأنّها لا تقدّر بثمن. وأمّا إهداؤها فمستحيل لأنّها لا تهون عليّ حتّى أراها مغبرّة في مكتبة غير مقصودة للعلم والبحث إلاّ من بعض التلاميذ للمراجعة وتمضية ساعات الفراغ بالهواتف الذكيّة التي قضت على الذكاء والذاكرة.
فمن مثلي في عذابي وحيرتي إزاء كتبي ومكتبتي التي لا يفهم منها أبنائي شيئا ولا يحتاجون إليها أصلا، والأيّام تجري بي جري الرياح بما لا تشتهي السفن؟ وما عزائي المخفّف من ألمي وحزني إلاّ قول الناس: “إنّما البقاء لله” وقوله تعالى: “كلّ من عليها فان (26) ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام (27)” (الرحمان) كما هو منقوش بأعلى واجهة محراب جامع بلدتي الطيّبة عبرة لمن يعتبر وسلوانا لأمثالي.