
لا تزال قضية فلسطين حجر الزاوية في التاريخ العربي الإسلامي المعاصر وستظل القدس بوصلته التي نهتدي بها في ظُلمتنا الحالكة وإن هرول المطبّعون لتقبيل أيدي الغُزاة كما فعل العملاء من قبلهم مع المستعمرين مشرقا ومغربا.
إن تحليل الأسباب الجيوسياسية التي دعت دول أوروبا الغربية إلى تهجير اليهود إلى المشرق بدعوى إعادتهم إلى أرض الميعاد التوراتية هو دور علماء السياسة politologues لإنارة الجميع، ورأينا أن ما جرى ناتج عن عقدة الذنب التي يعاني منها الغرب الأطلسي منذ قرون بسبب تصرفاته إزاء الساميين عموما وخاصة إبان حركات التحرر العربي والانفصال عن بقايا الدولة العثمانية.
“فلسطين”، قصيدة “شاعر الجندول” علي محمود طه (1901-1949) لحنها محمد عبد الوهّاب وغنّاها عام 1948 إثر نكبة فلسطين واحتلال جحافل يهود أوروبا أرض العرب التاريخية، وقد سبقتها بأشهر “مذبحة دير ياسين” (9 أفريل/نيسان 1948) التي نفذتها عصابتا أرعون وشتيرن الصهيونيتان في الفلاحين العزّل وراح ضحيتها بين 250 و 360 حسب الإحصاءات الفلسطينية و 109 فقط (؟) حسب المصادر الغربية.
أخي جاوزَ الظالمون المدى/فَحقّ الجهادُ وحقَّ الفِدا
أتتركهم يغصِبون العروبةَ/مجدَ الأبوّة والسؤددا
علي محمود طه
واجهت الأغنية عند ظهورها تقييما متضاربا من قبل الأدباء والفنانين بين منتقد ومعجب بسبب طبيعة مادتها الموسيقية.
فبينما أبدى الأديب عبّاس محمود العقّاد رأيا متشددا يقوله “يظهر أن هذا النشيد قد قام بتمويله صهيونيون لأنه يلائم طباعهم أكثر من طباع العرب. فليس فيه من أسباب القوة تلك القوة التي تستنهض الأمم وتقوّي الروح المعنوية. إنه نشيد ناعم متراخ يبحثّ على النوم والاسترخاء”،
كان رأي شيخ الملحنين زكريا أحمد شبيها برأي العقاد معتبرا أن “ألحان الحرب يجب أن تمثل البأس والقوة حتى تثير الهمم وتشدّ العزائم”.
وعلّق الشاعر محمود بيرم التونسي مشيرا إلى عبد الوهاب “لعله هو الذي ظلم نفسه حينما ترك لونه العاطفي الذي خُلق له وتصدّى لتلحين اللون الذي لا يحسنه”.
وكان رأي الشاعر بديع خيري رفيق سيد درويش في أعماله المسرحية “أن النشيد الحماسي نوع من أنواع الموسيقى يتطلب القوة، أما الليونة والهدوء فهما من صفات ألحان الحب والغرام”.
أما المسرحي زكي طُليمات فكان أكثر توازنا وموضوعية في قوله “يذكّرني قسم من هذا النشيد بنشيد الأذكار الذي يستحث الناس على التفاني في عبادة الله، ولعلّ الأستاذ محمد عبد الوهاب أراد أن يستحث الناس للدفاع عن الوطن باستثارة العواطف الدينية”.
زكي طليمات
ويدخل الأزهر على الخط فيتخذ موقفا تكفيريا أجبر الإذاعة أن تمتنع عن بثّ الأغنية وأن تحجبها. فقد اعترضت دار الإفتاء المصرية على وصف يسوع بالشهيد (يَسُوعُ الشَّهِيدُ عَلَى أَرْضِهَا/يُعَانِقُ في جَيْشِهِ أَحْمَدَا) معتبرة أنه مخالف للدين الإسلامي ويتناقض مع قوله تعالى في سورة النساء ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ وكذلك ﴿وما قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
واستمر الحجر أربع سنوات ولم يُرفع إلا بعد بتر البيت موضوع الإشكال، وكان ذلك قبل قيام ثورة يوليو 52 بشهر.
بالعود إلى الأغنية كعمل فني تتمثل القصيدة شكلا في مرثية كلاسيكية القالب على النمط القديم، موحدة القافية وعلى بحر المتقارب الذي يرتكز بناؤه على تفعيلة واحدة (فعولن)، وهو ما يسهّل على الملحّن تنغيمه إذ تضم خلاياه الإيقاعية نبضا نشيطا يلائم مسار النشيد.
أما الصور الشعرية فتتركب من تراكم مفردات من ذاكرة الشعر العربي تحيل إلى بطولات الفروسية السالفة (فجرّد حُسامَك من غِمْدِه/فلَيس له مِن بعدُ أن يُغمدا).
من الناحية الموسيقية جاء اللحن مثل سابقتها “دمشق” في أسلوب الأغنية العاطفية المُطربة بما تحويه من عناصر الطرب: تكرار الجمل اللحنية حتى استقرار النغم وإطالة الصوت بحروف المد و”التفريد” أي العرض الصوتي لبراعة المغني في استقراء المقام، وهي عناصر لا تتفق وهيئة النشيد المتحفّزة.
ولعل ذلك ما دعا العقّاد إلى اتخاذ موقفه السلبي خصوصا أن الطرب يعني لغةً “ارتياح النفس لفرح أو حزن أو صوت جميل”.
وقد عبّر رياض السنباطي -وهو ملحّن القصائد العاطفية بامتياز- عن إعجابه الشديد بهذا العمل قائلا “ليس هذا نشيدا وإنما أغنية رائعة يمكن أن تغنى في أي وقت كان”.
ونجد صدى هذه الأغنية عندنا في لحن النشيد الذي وضعه رضا القلعي عن الزعيم الحبيب بورڤيبة بمناسبة عودته من المنفى في جوان 1955 وغناه الهادي القلاّل (حَبيبي يَا مُجاهدْ على وطنكْ) وهو يكاد يكون مطابقا للحن (أخي أيها العربي الأبي) وما بعده والذي شبهه طليمات بالنشيد الديني.
إن ما نستمع إليه اليوم من “أناشيد” تبثها الفضائيات العربية بدعوى مساندتها للشعب الفلسطيني لا يختلف في مفرداته الموسيقية عن سياق الطرب الذي توخّاه محمد عبد الوهاب، وهي في هيأتها خالية من التعبير المُحفِّز ولا تحمل سوى الإحباط المميت.
ولا غرابة من ذلك فأصحابها لا يحملون القضية في وجدانهم ولا يدركونها بعقولهم فهُم في كل أرض يهيمون، يُبدون ما لا يعتقدون، ديدنهم المال والجاه.
فبين فتات موائد الأمراء دون كرامة وأشلاء الجثث المقطّعة في غزة وجنوب لبنان عالم بعيد عن تصوّرهم “كبُعد الأرض عن جوّ السماء”.