
سَلامٌ مِنْ صَبَا بَرَدَى أَرَقُّ / وَدَمْعٌ لا يُكَفْكَفُ يَا دِمَشْقُ
وَذِكرى عَن خَواطِرِها لِقَلبي / إِلَيكِ تَلَفُّتٌ أَبَدًا وَخَفقُ
هذه القصيدة كتبها أحمد شوقي عام 1926 ورثى بها ما حل بمدينة دمشق من دمار نتيجة قصف مدافع الجيش الفرنسي الذي حاصرها ثلاثة أيام في السنة ذاتها وأمطرها وابلا من القذائف وألحق بها دمارا كبيرا وخاصة المدينة القديمة والمباني الأثرية ومنع سيارات الإسعاف والإطفاء من التوجه إليها.
والأغنية ليست حماسية كما يتصوّر من يجهلها ولكنها تتسم بمسحة من الشجن العاطفي “ومشاعر تمليها الأحداث والأنباء عن القتال والدمار”
لَحاها اللهُ أَنباءً تَوالَتْ / عَلى سَمعِ الوَلِيِّ بِما يَشُقُّ
ويستعمل فيها الملحّن عناصر “التطريب التعبيري”: وحدة المقام وإعادة الجمل الموسيقية لبلوغ السلطنة، التنويع السريع إلى المقامات المجاورة، إفراد كل بيت بلحن خاص، إطالة حروف المدّ.
وتندرج الأغنية ضمن الأسلوب الذي توخّاه عبد الوهّاب في الأربعينات أي مرحلة ما نسمّيه “الغناء السردي” مبتعدا بذلك عن الأغاني السينمائية القصيرة ومعتمدا على القصائد الرصينة التي تُسجّل على الأسطوانة ولا تؤدّى في الحفلات العامة مثل الكرنك، كيلوباترا، الجندول، سجى الليل وغيرها.
كُتبت القصيدة المرثيّة أثناء الثورة السورية الكبرى على الاحتلال بقيادة الزعيم الدرزي سُلطان باشا الأطرش ونعتوها بالعصيان وإثارة أعمال الشغب
إِذا ما جاءَهُ طُلّابُ حَقٍّ
يَقولُ عِصابَةٌ خَرَجوا وَشَقّوا.
وسلطان الأطرش (1891-1982) هو مجاهد وطني سوري من الموحّدين الدروز أصيل محافظة السويداء، قاد الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي الذي اقتسم مع نظيره البريطاني تركة الإمبراطورية العثمانية في الشرق العربي.

وفي بيان أصدره عام 1925 بعد سحق الثوار للجيش الفرنسي في معركة “المزرعة” دعا الأطرش الشعب السوري إلى الوحدة وإلى الثورة على الانتداب الفرنسي جاء فيه:
“أيها العرب السوريون تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وان إرادة الشعب من إرادة الله ، وأن الأمم المتمدنة الناهضة لن تنالها يد البغي، لقد نهب المستعمرون أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية التجارة والسفر حتى في بلادنا وأقاليمنا،
إلى السلاح أيها الوطنيون، إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد، إلى السلاح تأييداً لسيادة الشعب وحرية الأمة، إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم واستعبد بلادكم ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية”.
لم يقتصر جهاد الأطرش على محاربة الانتداب الفرنسي رغم وفرة جيوشه وعتاده فحسب بل تواصل إلى المساهمة في الحرب العربية الأولى ضد العصابات الصهيونية عام 1948 وأرسل حامية درزية للدفاع عن فلسطين ارتقى كثيرون منهم شهداء قرب مدينة نابلس. وقد دعا جامعة الدول العربية عام 1948 إلى تأسيس جيش لتحرير فلسطين وقال لأحفاده “ما أُخذ بالسيف، بالسيف يُؤخذ، والإيمان أقوى من كل سلاح، وكأس الحنظل في العز أشهى من ماء الحياة مع الذل”.
بعد أربعة أشهر من اندلاع ثورة الدروز في جبل العرب والغوطة الشرقية دخل دمشق في أكتوبر حوالي 400 خيّال من ثوّار الدروز “سوق البزورية” متجهين إلى “قصر العظم” مقر المندوب السامي الجنرال موريس سرّاي Maurice Sarrail لإلقاء القبض عليه ولكن تبيّن أنه لم يكن موجودا.
وتقول المصادر إنه أقيل بعد ذلك من منصبه بسبب سوء تقديره العسكري وسياسته العنجهية التي أدت إلى مقتل 10000 سوري -من المدنيين خاصة- وما بين 2500 و 6000 جندي فرنسي.
وكانت مجزرة دمشق وتدمير جزء كبير من المدينة العتيقة وآثارها المعمارية الهامة مثل قصر العظم ومحلة سيدي عامود التي شب فيها حريق هائل امتد إلى “بيوت دمشقية عريقة الطراز تميزت بغنى زخارفها الداخلية”، كما تهدم مقر قنصلية ألمانيا وبيت قنصلها:
رَماكِ بِطَيشِهِ وَرَمى فَرَنسا
أَخو حَربٍ بِهِ صَلَفٌ وَحُمقُ.
وإذ تختلف الروايات في تحديد أسباب نشوب المعارك بين قوات الانتداب وأهالي دمشق المساندين للثوار الذين نُعتوا بعصابة مجرمين وقتلة فالثابت أن الجنرال سراي أمر بقصف المدينة أرضا وجوا دون هوادة وإحراقها حتى القضاء النهائي على التمرد:
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ.
(يتبع)