
نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا / وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
تحتوي قصيدة شوقي المُعنونة “نکبة دمشق” خمسة وخمسين بيتا عبّر فيها الشاعر عن عميق تأثره بما حلّ بمدينة دمشق أيام كان الناس لا ينتظرون بيانات رسمية من حكوماتهم أو إملاءات من الخارج ليحددوا مواقفهم بل يتفاعلون تلقائيا مع الأحداث التي تمس إخوتهم في أي مكان ويؤازرونهم في المحن:
ويمكن اعتبار القصيدة وثيقة أدبية تؤرّخ للنكبة وتضعها في إطارها الصحيح وتبيّن فظاعة الجرم الذي ارتكبه المستعمر الفرنسي في حق الإنسانية والحضارة:
وَقيلَ مَعالِمُ التاريخِ دُكَّتْ
وَقيلَ أَصابَها تَلَفٌ وَحَرْقُ.
وشهد شاهد من أهلها.
عندما صدر كتاب “دمشق تحت القصف” Damas sous les bombes للكاتبة الفرنسية Alice Poulleau (1885-1960) عام 1926 حمل غلافه شريطا كتب عليه:
“هذا الكتاب ممنوع في البلدان تحت الانتداب الفرنسي. أيها الفرنسيون، إن أردتم أن تعلموا لماذا يتهمونكم بالتسلط العسكري وبالامبريالية رغم حبكم للسلام فاقرؤوا هذه الرواية المثيرة، هذه الشهادة الدامغة”.
وجاء في مقدمة الكتاب:
“هذا الكتاب الذي ألّف تحت القذائف بينما كان أبناؤهن يتقاتلون، أهديه إلى أمهات فرنسا وسوريا اللاتي يعانين من نفس الآلام”.
وساءت المؤلفة في الوقت ذاته مواقف كثير من الفرنسيين كتّابا وصحفيين لم يشاهد أحد منهم ما يحدث في دمشق ولم يطلعوا على مجريات الوقائع:
” أليس من العدل أنه بعد العديد من الشهادات المغلوطة أو المنقوصة التي نشرتها الصحافة أن تنهض شاهدة مجهولة، امرأة فرنسية، من وسط الشعب السوري الذي عاشت معه بأخوّة في اللحظات الحرجة، وتشهد باسمها في محاكمة سوريا لتقول الكلمة الأخيرة”.
وروت المؤلفة ما شاهدته بأم عينها من تدني أخلاق الجنود الفرنسيين وبذاءة ألفاظهم وكذلك سوء تصرفهم مع أهل البلد والاستهزاء بهم وبطقوسهم مسلمين كانوا أو مسيحيين.
وقد صدمتها هذه الصورة البشعة المناقضة تماما لطباع الفرنسيين من أهل بلدها والتي ساهمت في تعميق نفور السوريين منهم وزرعت في نفوسهم الحقد والضغينة. والمعلوم أن جيش فرنسا الذي أمّن الانتداب كان يضم أيضا عساكر من مستعمراتها الإفريقية مثل السنغال الذين اشتهروا بالطاعة العمياء والبطش بلا رحمة وبلاد المغرب العربي الذي اغتنم مجندوه الفرصة للزواج من شاميات.
وفي وصف مؤثر لصورة من الدمار الذي لحق بالمدينة تدوّن الكاتبة الفرنسية:
“الأحد 25 أكتوبر.
بدأت هذا الصباح زيارتي المقدسة إلى “خرائب” دمشق “الحديثة”. انطباع لا ينسى. الطقس رمادي جزين وفي حِداد. وصلتُ شارع سنجقدار، لم أعد أعرف أين أنا. الحمّام بأكمله دمّر وجزء من المحلات التي على يمينه قبل جامع “الدرويشية” دُمّر. كما دُمّرت المحلات التي على يساره وكذلك المتاجر التي كان لي فيها أصدقاء مؤدبون وشرفاء. كل شيء يحترق غبارا وجمرا. الصوامع والقباب مجرّحة بشظايا القذائف..”.
ما أشبه اليوم بالأمس، والتاريخ يكاد يعيد نفسه وبصورة أبشع تصنعها أيادي أبناء سوريا بإعانة مرتزقة من ملل وأعراق لا تنتسب إليهم بصلة.
إن ما فعلته قوات الانتداب الفرنسي منذ قرن ليس أول ولا آخر ما تعرّضت له المدينة العريقة من تدمير. فقد غزا المغول الشام عام 1400 بقيادة تيمور لنك ودمّر مدن حماة وحلب وحمص وأحرق الأخضر واليابس ثم وصل إلى دمشق وحاصرها ثمانين يوما حتى جنحت للصلح.
ويقال إن العلامة ابن خلدون رافق الجيش المصري الذي جاء لنصرتها هو من فاوض القائد المغولي وأقنع كبار القوم بتسليم مفاتيح المدينة. لكن تيمور نقض العهد ودمّر دمشق بعد أن أخذ المال والذهب وسبى النساء وقتل الأطفال والرضّع دوسا بأقدام خيول جنوده.
ويروي بعض المؤرخين أن تيمور لنك أهدى المدينة لجنوده فنهبوا بيوتها وقتّلوا أهلها ثم أحرقوها. وصادفت المحرقةَ ريحٌ عاتية فسرت النار بسرعة وظلت دمشق تحترق ثلاثة أيام وبقيت رائحة احتراق الخشب الرفيع والعنبر في أرجائها تضوع مدة طويلة وانتشرت إلى مدى بعيد.
وتتهم بعض المصادر العربية ابن خلدون بخيانة الأمانة لأنه كان يعلم نية تيمور لنك بنقض العهد ورغم ذلك دعا الدمشقيين إلى الاستسلام وعدم التصدّي للغازي.
إن ما ينشره الإعلام الغربي اليوم من معلومات مضللة désinformation ودعاية مضخّمة لخدمة أغراضه الدنيئة في سوريا اهتدى إليه تيمور لنك الغازي المسلم بفطنته وخبثه قبلهم.
فقد كان كلما أحرق مدينة أمر بعدم قتل الشعراء والعلماء وإخلاء سبيلهم وتمكينهم من الزاد والجياد ليس حبا في العلم والأدب بل لكي ينتشروا في البلاد وينقلوا للناس صورة من بطش المغول الذي ينتظرهم: إن المغول قادمون.
تلك هي سياسة الغزاة منذ الأزل، وحجة الأقوى هي المُثلى. ولا جديد تحت الشمس.
انتظروا دوركم أيها الحمقى الممولون للإرهاب ولخراب، لقد اقتحم الذئب حظيرتكم وسوف يلتهمكم واحدا تلو الآخر، وكما جاء في حكاية جان لافونتان “إن لم تكن أنت فهو أخوك، وإن لم يكن أخوك فابن عمّك”.
هذا هو وضعكم، ولن تنفذوا منه إلاّ بسلطان.