
شئنا أم أبينا فإن الشرق هو مهد الحضارات الإنسانية قاطبة ونبع القيم الروحية بدء من اليمن السعيد حتى الهلال الخصيب (الأردن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين) ومصر “المتلاحمة في الجغرافية والجغرافية السياسية والممتدّة في التاريخ والحضارة والثقافة والروح”.
والشرق كان ولا يزال منذ الزمن القديم حُلم الغرب الأوروبي لما يمثّله من طاقات تنموية وإستراتيجية جبّارة، ولا أدل على ذلك إلا إقباله على النهل من علومه القديمة ومحاولة فهم أسرارها وبالخصوص تكالبه على نهب ثرواته والنبش عن كنوزه الدفينة.
منذ أكثر من عشرين سنة كان صديقنا الصادق معرّف أستاذ التاريخ في إحدى فروع جامعة السربون يقول عن عِلم: “إن التاريخ لا يعيد نفسه في ذات المكان وإن الإمبراطوريات التي أخذت دورها في تاريخ البشرية ثم أفلت لا يمكن أن تعود”.
أنظروا الفُرس واليونان والرومان والمسلمين كيف أصبحوا اليوم بعد أن غزَوا العالم بالأمس. أين هم الآن من العالم الجديد ؟
لقد لعب كل دوره ولمّا بلغ ذُروته ترك المكان لشعوب أخرى تنتظر على تماس الرقعة.
بعد الأحداث المستجدّة في سوريا والسقوط المباغت للنظام “بقدرة قادر” تصدّرت المشهد الجديد فصائل مسلحة كان الغرب يصنّفها بالأمس إرهابية.
في لحظة ذهول جنوني اختلط الحابل بالنابل والتبس الشرق بالغرب وتفتت الوطن بين أيدي أبطال اللعبة الدنيئة وصار بنو صهيون على مرمى نظر.
كيف لجيش من أقوى الجيوش العربية في المنطقة أن يتفتت ويترك قدراته تُدمّر وينهار بين صبح ومساء ؟ أين اختفت استخباراته الرهيبة التي كان الجميع يخشاها ؟ هل بلغت الخيانة هذا الحد من الغباء حتى يفتح السوريون مجالاتهم السيادية أمام الأعداء المتربصين بهم من زمان ليستبيحوها ويتقاسموا أراضيها أم أنها صياغة منقّحة لسيناريو عراق صدّام حسين يُعاد بعد أكثر من عقدين ؟
أسئلة متراكمة تنتظر تحليلا موضوعيا مبنيا على معطيات ميدانية ستتضح معالمها لا محالة وستكشف الأيام أطراف اللعبة القذرة ومحرّكي دُماها.
فهذا المشهد المُلتبس والمعقّد يحمل في طياته أكثر من بصمة ظاهرة وخفيّة.
شيش كباب وهمبورغر بطابع كاشير، قطعان من الذئاب الجائعة تنهش اللحم العربي وقد صار لقمة سائغة: ذاك يحلم باستعادة إمبراطورية الخلافة التي أضاعها في حروب لا تهم إلا تفوّق المغول في صراعاتهم مع الأعراق المختلفة والآخر يحلم بتحقيق نبوءة حكماء صهيون بدولة ممتدة الأطراف من النهر إلى النهر مثلما هو مرسوم على عَلمها. أما الذئب الأكبر فيلهث جاهدا ليحصل في التوّ والحين على نصيبه من اللحم الطازج بعد أن التهم لُقما شتّى.
هذا الوضع المأساوي ما كان ليحصل لولا الفتنة التي زرعوها بين شعوب المنطقة وطوائفها والاقتتال الذي حرصوا على تكريسه.
قد يقول البعض إن هذا شأن سوري بحت ولا يهم سوى أصحابه وأهل مكة أدرى بشعابها، وقد يتنصّل منه ألائك الذين باعوا ضمائرهم بحفنة أوراق نقدية برائحة البترول يدفع الأمراء مثلها “بقشيشا” لبوّاب كباريه في مانهاتن أو آخرون لا يؤمنون بالانتماء العربي ويُرجعون أصولهم إلى أعراق غابرة.
والحقيقة المُرّة هي أن جميعهم مستهدفون ومعرّضون للغزو والاستعمار من جديد ولن ينجو “إلا من رحم ربّك” من الوطنيين الشرفاء والمقاومين الصادقين.