
سفر برلك seferberlik عبارة تركية تعني التعبئة وهي مشتقة من الفارسية seferber بمعنى مُستعد للحرب وصارت في المنطوق الشعبي العربي تعني التجنيد القسري في الجيش العثماني ثم التهجير الذي ترك آثارا أليمة أيام الحرب البلقانية الثانية والحرب العالمية الأولى. كما أصبحت العبارة مرادِفا للحرب الكبرى وللمجاعة التي اقترنت بها في المنطقة.
وقد شاهد المبشّر الانكليزي William Wright (1837-1899) لدى مروره بقرية معلولة السورية عام 1914 طابورا من الشباب المُجندين قسرا وهم في حالة من الضعف الشديد، جائعين وموثّقين بأصفاد بدائية وينزفون دما. فكتب مُعلقا بسُخرية مقيتة: “يجب على أحد المتبرعين أن يهِب الأتراكَ قيودا أكثرَ مدنية”.
ألّف الأخَوان عاصي ومنصور رحباني عام 1967 فيلما مُستوحى من هذه المرحلة بعنوان “سفر برلك” قامت ببطولته فيروز وإحسان صادق بالاشتراك مع عناصر فرقتهما: نصري شمس الدين، هدى حداد، جوزيف ناصيف، ملحم بركات، إيلي شويري، وغيرِهم.
تقع الأحداث في العام 1914 عندما كان لبنان تحت الاحتلال العثماني. ومن أجل إضعاف المقاومة الشعبية صادر الأتراك كل القمح المخزّن عند الناس وساقوا شبابَ البلاد إلى المنفى كما أجبروا كل قادر على العمل بالسَّخرة أي العمل الإجباري كتقطيع الحطب في ظروفَ غايةً في القسوة والاستبداد.
ويصوّر الفيلم معاناة الناس في ظل وحشية الأتراك كما يجسد شجاعتهم ونضالهم ضد هذا الاحتلال الغاشم.
وعند ظهوره كاد الفيلم أن يتسبب في حادثة دبلوماسية بين الحكومة اللبنانية والدولة التركية التي احتجت عن طريق سفارتها ببيروت وطالبت منع عرضه لأنه يُسيء إلى الأتراك. لكن الإساءة الأكبر والتي بقيت محفورة في ذاكرة أهل المِنطقة عن تلك الفترة الحالكة من التاريخ العثماني وما خلفته من دمار وقتل دفعت الدولة اللبنانية أن تجيب بكل لباقة وحزم بأنها لا تستطيع أن تمنع عملا فنيا ليس فيه مساس بالأخلاق العامة أو بالقانون.
كان للأخوين رحباني موقف ثابت وصريح من الخلافة العثمانية بسبب ما فعلته في سوريا ولبنانَ من قمعٍ واضطهاد للعرب ومقاومةٍ شرسة لكل تحرك انفصالي وتهديمٍ لكل عمران وبناء.
وها هو التاريخ يعيد نفسه بتدخّل تركيا في الشأن السوري والاستيلاء على مدن بأكملها وتسليح فصائل من المرتزقة والإرهابيين بدعوى أنهم ثوّار ضدّ النظام.
وكلما وجد الأخَوان الفرصة سانحة في السياق الدرامي إلا وهزّءاها بالغناء وجعلا من التركي شخصية مُضحكة وغبية. فالفيلم لا يخلو من مواقف في هذا الاتجاه زيادة على أن مسرحية أيام فخر الدين التي تمجد المقاومة اللبنانية للإمبراطورية العثمانية نجد فيها حوارات كلامية وغنائية عديدة في هذا الغرض.
وتجدر الإشارة إلى أن عبارة سفر برلك ترتبط ارتباطا وثيقا بإنشاء سكة حديد الحجاز التي أسست زمن ولاية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لغرض خدمة حجاج بيت الله الحرام انطلاقاً من مركزها في دمشق.
بوشر العمل في السكة عام 1900 وافتتحت عام 1908 واستمر تشغيلها حتى 1916 في الحرب العالمية الأولى إذ تعرضت للتخريب بسبب “الثورة العربية الكبرى” التي أشعلتها بريطانيا ضد الدولة العثمانية لأغراض عسكرية.
وفي عام 1917 انضم الجاسوس الانكليزي توماس إدوارد لورانس الملقب بلورانس العرب إلى الثوار العرب فحرضهم على نسف الخط، ومنذ ذلك الحين لم تُفلح المحاولات لإعادة تشغيله أو تحديثه.
بلورانس العرب أيام الحرب العالمية الأولى
وفي الجزء الرابع من كتابه (طيبة وذكرياتُ الأحبة) خصص الباحث السعودي أحمد أمين مرشد فصلا هاما للحديث عن السفر برلك الذي عرفه أهلُ المدينة المنوّرة في تلك الحِقبة ودامت معاناته أكثرَ من ثلاث سنوات.
وهو تهجير جماعي قسري وسيلته قطارُ الحجاز حيث أمر فخري باشا والي المدية التركي الترحيل بالاختيار حفاظا على المدينة وأهلها من القوات البريطانية. وبعد انقلاب الأشراف عليه صار التهجير قسرا فكان القطار يمشي باتجاه الشام ويلقي الناس بالجملة خبط عشواء في الأردن والعراق وسوريا ثم في تركيا.
ويُقال إنه لم ينج سوى مئة وأربعون شخصا من نساء وأطفال اختبئوا في المغاور.
إلى جانب ما وقع في سوريا ولبنان والمدينة المنوّرة أيام الحكم العثماني فإن سفر برلك يعني كذلك حربا اشتهرت بنفس التسمية عام 1915 تَواجَه فيها الأسطول العثماني مع الأسطولين الإنكليزي والفرنسي عند مدخل مضيق الدردنيل الذي يربط بين بحري إيجة ومرمرة.
كان هدف الإنكليز والفرنسيين من المعركة التي تُعدّ واحدة من أبرز معارك الحرب العالمية الأولى إغلاقَ مضيق الدردنيل أمام العثمانيين، ومن ثمة التوجه نحو عاصمة السلطنة اسطنبول لإسقاطها. لكن العثمانيين استعانوا بكل قواتهم وألحقوا الهزيمة بجيوش المعتدين.
ولم يكن ذلك الانتصار للأتراك وحدهم بل شاركهم فيه أبناء الولايات التي كانت خاضعة لحكم السلطنة العثمانية والذين تم تجنيدهم قسرا ولم يُعرف مصيرُ أغلبهم.
وتُبرز الشواهد الرئيسية لقبور الضحايا في المكان عددَ قتلى المدينة والبلد الذي ينتسبون إليه، مثل السليمانية (العراق)، الشام وحلب (سوريا)، فارنا (بلغاريا)، تبريز (إيران)، طرابلس الغرب (ليبيا) بيروت وطرابلس الشام (لبنان)، إضافة إلى مدينة يافا الفلسطينية التي يشير الأتراك إلى أن البلد الذي تنتمي إليه هو.. إسرائيل!