
عام 1953 كتب الناقد الموسيقي اللبناني نزار مروّة في مجلة الثقافة الوطنية مقالا استشرافيا لمستقبل “الرحابنة” وما يحملانه من حركة تطوير مستقبلية للأغنية وللموسيقى العربية. ويحمل المقال عنوان: (مع الأخوين رحباني المُجددين اللذَين يزرعان في أرض قاحلة مجدبة) كتبه تعقيبا على ما صرّح به الأخوان واعتبرا أنهما في الطليعة من الموسيقيين الذين سيصنعون من الموسيقى العربية شيئا مذكورا.
ومن أهم ما جاء في كتابة نزار:
“لِمَ لا ؟ وهما اللذان خرجا من كون الفنان أمينا لمتحف الآثار القديمة بل قطعة أثرية في ذلك المتحف، من الناحيتين: الفنية والشخصية.
لقد تطوّر معنى الموسيقى ومعنى الطرب، وأصبحت لهما مفاهيم جديدة لم تعد تتحملها طاقات الموسيقى القديمة، ولا بد للمجدد من الخروج إلى النور، إلى الثقافة الفنية العميقة، الخروج من القواقع إلى الدنيا والناس والاحتكاك بمختلف التيارات الفكرية والفنية والأدبية.
إن الحياة الجديدة لا تغفر للفنان عدم إطلاعه على جريدة يومية أو مجلة أسبوعية على الأقل. وإلا فكيف يمكن استغلال تراثنا النغمي الفني بحيث يمكن أن يُعبّر عن المفاهيم الجديدة في الموسيقى والطرب ؟”
لكن هذا التيار الجديد الذي هب على الغناء العربي في لبنان منذ بداية خمسينات القرن الماضي تعرّض إلى حمَلات انتقادٍ متوحشة في عديد البلاد العربية بما في ذلك تونس منها بالخصوص “اتهام الأخوين بالعمل لصالح أجندة خارجية عدوّة تعمل على تقويض الموسيقى العربية من الداخل وتعويضها بالموسيقى الغربية” (؟).
وهذا التفكير يندرج في نفس اللغة التي تستعملها قوى الردة والجذب إلى الوراء منذ نشوء الدولة الحديثة بدعوى الخصوصية القُطرية الموروثة عن فترات حالكة في التخلف.
ولأن هذا الخطاب كان متلائما مع السياسة الرسمية المنتهجة فإن كل الأصوات الناشزة في جميع الفنون ُتوجه لها نفس التهمة وربما تُمنع من التعبير وتبقى على الهامش.
والتاريخ لا يرجِع إلى الوراء ومن يتوهم أنه قادر على إرغام المجتمعات على ذلك فلَسوف تسحقه عجَلة الزمن ويَجرُفه التيار.
فيروز بين الأخوين عاصي ومنصور الرحباني
(جبال الصوان) مسرحية للأخوين رحباني يقوم بالأدوار فيها: فيروز في دور غربة ابنة مِدلِج سيد الجبل، نصري شمس الدين في دور عبدُه المُختار (العمدة)، هدى حداد من أهالي الجبل، إيلي شويري في دور العميل شهوان، جوزيف ناصيف أحد قادة الجيش الغازي، نوال كِك العجوز ذاكرةُ المِنطقة، الممثل أنطوان كَرباج في دور فاتك المتسلط الغازي بجيوشه، فنان الكوميدي فيلمون وهبي في دور نعّوم المخبول، وعديد الأدوار الصغيرة.
ولا ننسى طبعا الكورال أي الإنشاد الجماعي الذي يحتل دورا هاما في رواية الأحداث وتسلسلها مثلما هو الشأن في كوروس التراجيدي الإغريقية كما يمثل قيمة فنية جديدة من حيث تقسيم الأصوات وتعددها.
و”جبال الصوّان” هي مسرحية ذات نفس ملحمي يبدو أن الدوافع إلى كتابتها كثيرة منها معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال، والوضع الأمني المرتبك في جنوب لبنان بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية المقوّضة لاستقرار المنطقة، كما أنها قد تكون ردا على هزيمة 1967 وتحريضا للعرب على عدم الاستسلام واستئناف المقاومة.
وأيّا كانت الدوافع والأسباب فإن “جبال الصوان” التي قُدمت في مهرجانات بعلبك عام 1969 قصةٌ تخيّليّة تحكي بإيحائية ساطعة سيرة بلد ذي مناخات شرقية دون أن تستند إلى وقائع فعليّة سواء كانت تاريخيةً أو آنية، وبالتالي يمكن أن تحدث في كل زمان ومكان.
ويرى البعض أن هذه المسرحية ذات النفس الملحمي فريدة من نوعها في مسرح الرحباني ولا مثيل لها وهي تحمل قوة استشرافية ومقدُرةً على التنبؤ بما كان ينتظر لبنان والشرق العربي من ظروف استثنائية فيها الاحتلال وفيها المُقاومة.
(يتبع)