
لم أصدّق ما رأيت في فيديو حقيقي: رجل في لباس الشغل يقوم بشؤون مزرعة صغيرة مستمتعا بحياة ريفيّة في منزل بسيط. ولولا المعلّق لما عرفته. إنّه خوزيه موخيكا، أفقر رئيس في العالم، وإلى جانبه زوجته تساعده، وفي ناحية قريبة سیّارتهما الفولزفاغن البيضاء من ذلك الطراز القديم. كان طيلة خمس سنوات رئيس الأورغواي وخادم الشعب ومقاوم البطالة. لم يطلب تمديدا، ولا عهدة ثانية، ولا نقّح الدستور. وأكثر من هذا، فقد رفض جراية التقاعد كرئيس، وربّما اكتفى بجراية بسيطة عن شغله قبل الرئاسة. والله أعلم بسرائر هذا الإنسان غير العادي مقارنة بأفاعيل الرؤساء عامّة، والعرب منهم خاصّة.
هؤلاء يبدعون في تطبيق القانون مع هواهم، ولا يطلبون من شعوبهم أكثر من المناشدة بنداء: ” أنت أو لا أحد”. وبناء على المناشدة يتغيّر كلّ شيء لأجل عشرين أو ثلاثين سنة من الحكم المطلق المستبدّ القامع لأصوات النقد والإصلاح والحرّية. السنوات الثلاث الأولى جنّة مفتوحة، وآمال شاسعة. وبعدها استبداد وفرعنة بإعلام التطبيل والتزمير وأرقام في علّيين كما يحبّ أكثر المواطنين. ومجلس النوّاب بغلبة الحزب الواحد أو التحالف الفاسد ينوّه ويثمّن ويشكر ويطلب الترفيع في ميزانيّة الرئاسة بالتوازي مع الترفيع في ميزانيّة المجلس التي يغترف منها النوّاب الكرام كما يشاؤون، وبالقانون الذي هم واضعوه. تلك فرصة الحياة الوحيدة لحضرة النوّاب وسيادة الرئيس لضمان مستقبل سعيد يجبّ الماضي التعيس. وبعد كلّ شيء فلا لوم عليهم بما أنّنا انتخبناهم لإنابتنا، فإذا أكلوا شبعنا، وإذا تمتّعوا فرحنا. وهكذا جرت العادة من بداية الاستقلال إلى نهاية العشرية السوداء.
فإذا تجاوزنا الاستثناء التونسي الوحيد القابل للمقارنة مع رئيس من أمريكا الجنوبيّة ورئيس من جنوب إفريقيا وجدنا أنفسنا وأموالنا وآمالنا وأحلامنا في قبضة “عائلة مالكة” تحكمنا بالوراثة. ومثلما لم أصدّق ما رأيت عن رئيس غير عاديّ حكم الأورغواي لم أصدّق ما رأيت كذلك (لتأكيد التشبيه) ما رأيت عن رئيس ابن رئيس حكما سوريا على التوالي لأكثر من نصف قرن بسجن صيدنايا. كلّهم هكذا يفعلون، يبنون السجون ويشيّدون القصور، وينهبون ويهرّبون. أيّة “مافيا” هذه السلطة الظالمة المتستّرة بالديمقراطيّة والانتخابات الحرّة الشفّافة النزيهة؟ وما أبعدنا عن القيم التي قامت عليها سياسة محمّد وعدالة العُمريْن !
وإذ يدعو الإمام لنفسه ولنا بحسن الخاتمة أكرّر بعده الدعاء نفسه لحكّام المسلمين شرقا وغربا عسى أن يحسن الله عاقبتهم على قدر تقواهم وخشيتهم وصلاحهم في تدبيرهم وفي أعمالهم من باب الشعور بالمسؤوليّة الكبرى، أي الأمانة التي عظّمها بقوله: ” إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها… الآية (الأحزاب: 72). وبعد الدعاء بالقرآن أدعو أصحاب الفخامة والسعادة والقصور والسجون وأموال قارون إلى قراءة مقدّمة ابن خلدون إن كانوا بها يعلمون. ومنها “فصل في أنّ الظلم مؤذن بخراب العمران” بما يصوّر إرهاب الدولة وعواقب النظام المجرم، عسى أن ينتبهوا ويتّعضوا ويرتدعوا، قبل الانقلاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.