
بعد دعوة الأهالي إلى نزع مظاهر الحزن واليأس والاحتفال بالفرحِ الآتي تذكّر غربة سكانَ جبال الصوان بضرورة التمسك بالأرض والإخلاص للوطن. وهي قِيم أخلاقية ثابتة لا يخلو منها عمل من أعمال الرحباني.
يدور حوار بين غربة وفاتك المتسلط ومعاونيه تتحدى فيه المحتلَ بكل أنفة وثبات وتتوعده بتخليص الجبل من شره. ويعجب القائد: كيف وهي لا تملُك عسكرا أو سلاحا ؟ فتُجيبه بأن الحق لا يموت ما دام وراءَه طالبٌ. غير أن فاتك يهزأ بها ولا يُعيرها اهتماما وفي الوقت نفسه يأمر بأن توضع تحت المراقبة هي وباقي الأهالي.
لكن الوضع المتأزم بين العدو والسكان لا يمنع قيامَ الحركات السرية والاستعدادَ للمقاومة. وأول أسبابها هو الفرح وبدءُ البناء، لأن الإنسان كما يقول الرحباني لا يُدافع عن الخراب ولكن عن بلد عامر ومزدهر. وتأخذ المقاومة في بدايتها شكل الاحتفال بعيد العنب وقد استأنفه الأهالي بعد سنوات من الصمت.
نماذج كثيرة من العادات والتقاليد القروية لا يخلو منها المسرح الرحباني وأهمها تلك التي تدخل في صلب الفلكلور بما فيه من مظاهر البهجة التي تتجلى في الأعراس والأعياد. ومن أشهر عناصر التراث الفلكلوري الدبكة المميِزةُ للفن المشرقي والمنتشرةُ في بلاد الشام ولبنان والأردن وفلسطين. وكانت في البداية تستلهم من الأشكال التقليدية لكنها وبفضل المصمم الكوريغرافي عبد الحليم كاراكالا خضعت عند الرحباني إلى تعديلات في الحركة والتشكيل لتستجيب لمستلزمات العرض المسرحي كما أن ألحانها قد بقيت على حالها أو تغيّرت أو رُكّبت عليها كلمات مؤلفة لها خصيصا.

وبهذه الصفة لم تعد الدبكة ومكوّناتها تحمل هُوية خاصة بمِنطقةِ معيّنة بل صارت بصمةً وطنيةً وقوميةً جامعة. ينطلق العرس ويدخل العريسان الساحة على أنغام غناء المناسبة الذي يؤديه نصري شمس الدين حسب التقاليد الشعبية وسط تهليل السكان وصيحاتهم.
والدبكة تُهيِّؤُها الزغاليط جمع زغلوطة والتراويد والميجانا والعتابا وأبو الزُلُف وكلها أنواع من المواويل والأغاني الشعبية تُؤدى في الأعراس القروية وقد يرافقها لعبُ السيف والتَرس وهي من الألعاب التي يُفاخر بها أهالي القرى لتذكيرها بماضٍ مجيد.
من خصائص المسرحية الرحبانية أنها تجمع النقيضين: التراجيدي والكوميدي فهي تُبكي وتُصيب في الصميم أحيانا، وتحرّك العواطف وتلهب الأحاسيس في آن.
يتواصل العُرس القروي دون أن ينسى الأهالي أن عُرسا وطنيا آخر ينتظرهن ويبقى أبو العروسة وزوجتُه بمفردهما بعد أن غادر الأهالي الساحة لكنهما يفاجئان بعسكر المحتل يعتقلهما ويعلن أحد الرجال عن الاحتفال بعيد النصر، نصر فاتك المتسلط على جبال الصوان. لكن الأهالي يقررون المقاطعة رغم تهديد أعوانه.
ومحور المسرحية هو فكرة المقاومة في جميع أطوارها: البناء والفرح عوضا عن الحزن واليأس، الصمود والإيمان بالقضية، ثم القتال. كل هذه المفاهيم تُثيرها غربة التي صارت رمزا لاستعادة الكرامة المفقودة. وهذه المقاومة تُطبخ على نار هادئة ويُحضَّر لها بالانتظار ثم المواجهة.
ولكي تكون أكثر فعالية يجب أن تنبع من الداخل والذي يؤمن بعدالة قضيته يجب أن ينزع الخوف لأن الخوف سببُ الانكسار.
هكذا قالت غربة لشعبها.

في مقاربة سياسية ذكية نشرت جريدة الأخبار اللبنانية في 18 ديسمبر 2013 مقالا بعنوان (فيروز ونصر الله، «جبال الصوّان» تقاوِم). يقول الكاتب:
“كل ما جسّدته فيروز من وقفات عز وطنية وإنسانية على المسرح، جسّده نصر الله على مسرح الواقع؛ الأولى، كمنارة ثقافية إنسانية، تستطيع، مكتفيةً بما ولّدته فينا من طاقة التحرّر والمحبة، أن تلوذ بالصمت المثقل بالمعاني، بينما الثاني، كزعيمٍ سياسي، مضطرٌ للظهور والقول.
(بَعْدا جْبال الصوَّان … عمّ بتقاوِم/ زحف الزحف عليها/ وقع الويل عليها…)
لكنها لا تركع ولا تهرب ولا تخاف.
فَتَح الربيع العربي الأسود، السياقَ للخلاص من جبال الصوّان المتمردة من جنوب لبنان إلى دمشق. والسلاحُ الفعّالُ هو الكراهية، ذلك الشيطان الذي يفرّ هارباً من صدى الأغنيات الفيروزية، خصوصاً، حين تكون المحبّة غضبا.
المحبّة المسلّحة؛ لن نكره وسنقاوم ! لن تغرق القلوب التي تحمل جبال الصوان على أكتاف الزمن، في وحل الكراهية، بل تفور بكرامة الغضب المقاتل؛ قرار المقاومة، روحاً وفكراً وقلماً وفناً وسلاحاً، ألاَّ تكره، ألاَّ تقاتل الضحايا، بل تكسر قلاع التلمود الصهيو ـــ وهّابية، وتحرّر البشر: (يا ريت فييّ دوْر حرِّرْ ها العبيدْ)”.