
عندما بدأ الأخوان الرحباني إحياء المسرح الغنائي العربي في أواسط الخمسينات كان هذا الفن قد بدأ يتجه نحو الركود في مصر بعد فترة حافلة بالنشاط ركّزها أهل الشام واللبنانيون المهاجرون ثم اقتصر عندهم فيما بعد على بعض اللوحات الفلكلورية التراثية التي يقدمها بعض المتحمسين من الهواة في المناسبات المختلفة.
ومنذ العام 1961 حتى العام 1977 كان للأخوين الرحباني موعد سنوي ثابت بين أعمدة بعلبك الرومانية حيث قدّما ثمانية عشر (18) عملا مسرحيا غنائيا هي على التوالي: البعلبكية، جسر القمر، الليل والقنديل، بياع الخواتم، دواليب الهوا، أيام فخر الدين، هالة والملك، الشخص أو بياعة “البَنَدورة”، جبال الصوان، يعيش يعيش، صح النوم، ناطورة المفاتيح، ناس من ورق، المحطة، قصيدة حب، لولو، ميس الريم، بيترا.
كما قدما قبل ذلك بمسرح معرض دمشق الدولي عام 1959 مغناة “عرسفي الضيعة” ثم أصبحت عروضهما فيما بعد تدخل تلقائيا في المهرجان الفني الذي كان يقيمه معرض دمشق كلَ سنة.
هذا الكم الهائل من الإنتاج الغنائي المسرحي لا شك أن الفضل فيه يعود إلى مهرجان بعلبك الذي احتضنه ولا شك أيضا أن للفن الرحباني فضلا على المهرجان لما تركه في سجله الذهبي من مآثرَ فنية ذاتِ قيمة.
ويقول الناقد نبيل أبو مراد في هذا الشأن: “لقد اقترن مهرجان بعلبك والرحباني برباط وثيق من الألفة والحب لسنين عديدة حتى كاد كل واحد منهما أن يصبح مرادفا للآخر”.
لم يحتج أحد على هذه الوفرة ولم يطالب بإقصاء الرحابنة من المهرجان بدعوى أنهم أخذوا نصيبهم في السنة الماضية ولا يحق لهم العودة ثانية بل واكبوهم بالنقد طالما أنهم يقدمون في كل مرة عملا جديدا.
إن الداء الذي نخر نخاع الثقافة في بلادنا ولا يزال هو عقدة “الزردة” التي تُقام في موعد سنوي محدود لإطعام الفقراء والمتسكعين وقد رَسَخت في العقلية العامة حتى صار الحرافيشُ أصحابَ حق يتقاتلون على اللحمة أمام صاحبِ الفضل الذي يفرُك يديه اعتزازا بما أنجز.
الكثيرون عندنا يعتبرون أن المهرجانات كعكةً يتقاسمونها وتوزع سِماطا على المعوَزين وحقٌ مكتسبٌ لكل من تخوّل له نفسه تقديمَ ما يعتقد أنه أحسن ما جادت به قريحتُه الهزيلة. وتنتهي المهرجانات ولا يبقى شيء في ذاكرة الزمن سوى تَعدادُ الأموال التي صُرفت والأموال التي قَبَضوها. كل هذا نتيجةُ انعدام الرؤيا وغياب التخطيط وكل عام وهُم بألف خير.
عام 1966 قدم الأخوان الرحباني المسرحية الغنائية أيام فخر الدين وقد جاءت بعد المرحلة الرومانسية والرمزية التي تميزت بها الأعمال الأولى لتقدم صورة ملحمية من تاريخ لبنان في القرن السابع عشر.
وفن الملاحم تشترك فيه كل شعوب العالم وُضع لتمجيد أبطالها وتفخيم الوقائع التي حفّت بحياتهم والتي يختلط فيها الواقع بالخيال. والمعلوم أن المبدعَ الفنان ليس مؤرخا ولا ناقل أخبار إنما هو مبتكرٌ من خياله وعبقريته لصورة فنية يستنبط ملامحها من وقائع التاريخ يُشير إليها ولا يتناولها بالتفصيل بل يفتح نوافذ التفكير في نتائجها. وقد كتب الرحباني في تقديم المسرحية: “الأبطال ينتهون لكن قصصهم لا تنتهي”.
الأمير فخر الدين المَعَني الثاني الكبير (980 – 1044 ﻫ / 1572 – 1635 م) هو أحد أمراء لبنان من آل مَعَنْ الدروز الذين حكموا إمارة الشوف من عام 1120 حتى عام 1623 أي طيلة خمسة قرون.
ويُعتبر فخر الدين الأميرَ الفعليَ الأول للبنان، إذ أنه سيطر على جميع الأراضي التي تضم مناطق لبنان المعاصر بحدوده الحالية، بعد أن كان يحكُمُها قبل عهده أمراءٌ متعددون. وينظر إليه عديدُ المؤرخين على أنه أعظمُ شخصية وطنية عرفها لبنان في ذلك العهد فقد حكَم المناطقَ الممتدةَ بين يافا وطرابلس باعتراف ورضا الدولة العثمانية. غير أن التجاذبات السياسية والخيانات الإقليمية دفعت الأطراف المعنية إلى صراعاتٍ وحروبَ دامية.
والمسرحية لا تتناول إلا فترة معينة من حياة فخر الدين ولم تتطرّق لكل تفاصيل المرحلة التي حفَلت بوقائع تاريخية كثيرة بل اكتفت بذكر الأحداث الرئيسية منها.

يقوم بدور الأمير المطرب نصري شمس الدين الذي تألق بشكل خاص في هذا الدور وفاق به شريكتَه في البطولة السيدة فيروز التي قامت بدور “عطر الليل” ابنة أحد جنود الأمير. ونصري شمس الدين هو مغني مسرحي لبناني له صوت صادح ورنّان من نوع الأصوات الطليقة التي تُسمى جبلية، ظهر في جميع أعمال الرحباني المسرحية والسينمائية والتلفزيونية والاسكتشات الإذاعية.
عمِل في بداية حياته في مصر ثم عاد إلى لبنان فتعرف على الأخوين رحباني لينطلق معهما في مسرحياتهما وأغانيهما من عام 1961 حتى 1978. وهما اللذَان أطلقا عليه اسم نصري شمس الدين.
(يتبع)