
قال كاتب: “ما الكتابة؟” بعد أن أكلت الكتابة أيّامه، مشيرًا إلى الكتابة الإبداعيّة وفق الأجناس الأدبية المُجْمَع عليها وخارجها… بالتّمرّد، بالإضافة، بغير المسبوق وبِقَتْل المطروق المعاد، وليست الكتابة تقتصر على الأدب فحسب ولا ترادفه ولكن تغطيه وسائر معارف أخرى…
وأوّلًا قبل طرح ذاك السّؤال الخشن الصّلب المُتَهَتِّك: “ما الكتابة” هناك سؤال أوّليّ قبل أيّ سؤال يُطْرح: ما الّذي يدفع إنسانًا إلى أن يكتب، إنسانًا بين غالبيّة النّاس؟ إنسانًا لا يهتمّ إهتمامًا دائما إلّا بالكتابة ولا تَعنيه أشياء الحياة الأخرى ولا شؤونها اللّهم إلّا بالقدر الكافي الّذي يرضيه وليس هو فوق حاجته.
صحيح هذا الّذي حفّزه دومًا نحو الكتابة إنّما هو الكتابة ذاتها وهي شيء ضمن أشياء أخرى! لكنّه شيء عميق ومتّسع رحب وحاضر في كلّ لحظة! وعند كلّ تواصل قادم… حتّى سكن ذاك الإنسان الكتابة والكتابة سكنته.
صحيح أيضا أنّه كان تلميذًا ثمّ طالبًا مثل سائر التّلاميذ والطُلَّاب، ولا فرق ولا تميُّز! إلّا أنّ هذا الإنسان قد آثر الكتابة وفضّلها على كلّ حرفة أخرى في شبابه فقيل له: إنّما هي هواية بمعنى أنّها شيء على الهامش، بل هي هامش على الهامش وهي هامشة الهوامش لا غير! فلم يقتنع بنصائحهم الّتي حذّرته من أغوال الزّمان. فأجاب بأنّ الكتابة عمل وفعل مثل سائر الأعمال والأفعال في المجتمع سواء بسواء وإذا أردتم أن تقيسوها بمقياس المواطنة والدّيمقراطيّة اليوم أو إذا أحببتم أن تشخّصوها بآلات تسجّل درجات القّوة والضّعف والهُزال، فالكتابة مهنة قاسيّة جدًّا وخدمة لا سهولة
معها إذ هي البحث الدّائم عن المعادن الثّمينة في الأُحْفُور، وإذ هي فعل معقّد صعب ذو إشكاليّات شَتَّى، تمتزج فيها الماديّ بالرّوحي والرّوحيّ بالفكر والقلب والمعرفة والذّوق. ومن الرّوحيّ ما هو موهبة تَعِذُ صاحبها بالإبداع والخلق. ومن الرّوحيّ أيضا تتطابق إبداع الفرد الكاتب على هموم الجماعة الاجتماعية وعلى طموحاتها. فلا هو رديف ولا زعيم ولا تابع هو إنسان كاتب كأنّه بين منزلتين كما كان يعّبر المفكّرون العرب القدامى، بين منزلة الواقع الحيّ ومنزلة المثاليّة المُرْتَجاة. فلا مجال للهواية ولا للأهواء النّزِقَة ولا للخَطَرات وهبوب الرّياح الّتي لا تحرّك ساكنًا ولا تبقي شيئًا الّلهّم إلّا الفَخْفَخة والفَشْفَشَة للطُّفَيْليّ الأكول على مائدة الكتابة.
وسألني صاحبي القارئ: لكن لم تُطْلِعني على المزيد من التّعريف بالكتابة؟… أعلم أنّ سؤالك هذا صعبُ الجواب عليه. سأساهم بما أستطيع… لنقل إنّ الكتابة ليست مجرّد حروف تُركّب مختلف الأبجدّيات في الآداب والفنون والعلوم وحتّى في التّكنولوجيات، فهي تغطّي مجالًا رحيبًا: الأجناس الأدبية المعتبرة من شعر وقصّة ورواية ومسرحيّة وسيرة وتنظير ونقد، ويحتوي على حقول معرفية أخرى: الفلسفة والتّاريخ والعلوم الاجتماعية والإنسانيّة والعلوم الصّحيحة كالفيزياء الوضعية والفضائية الفلكية… بالإضافة إلى التّعليق على الأعمال التّشكيليّة وتوابعها… وهنا ألتحق بما عرّف به العرب القدامى للأدب رغم أنّه تعريف ناقص مثل فعل كان في علم النّحو فقالوا: الأدب هو الأخذ بكلّ شيء من طرف. ونحن نقول اليوم: الكتابة تغطّي حقولا شاسعة من المعرفة المعمّقة.
ولئن كانت الكتابة شبه شموليّة نظرًا لتعدّد تغطيّاتها لشتّى الحقول المعرفيّة فهي تعشق الإيجاز والدّقّة والتّلميح والإعتدال والتّركيز والتّحليل وفتح الدّروب المجهولة وتكره الهذر والثرّثرة والإجترار والتّوكيد وتأنف من الجفاف في الفلسفة والوثوقية العنيدة في التّاريخ والقسوة في خطاب العلوم ومن الضّيق والفقر الفكري والتّصحّر ومن الإضطراب المفتعل في توصيف الفنون. وفي الحلّقة القادمة نرى الكتابة تعتمد على البِنى التحتية الاجتماعية وعلى البلاد الأجنبية. ع.م